مقالات

أبو الروتي 38

05/06/2025, 16:12:27

كان المعتقل عبارة عن حوش كبير في مدينة الشيخ عثمان. وعند وصولنا وجدناه مليئًا بالمعتقلين، وأغلبيتهم من أعضاء جبهة التحرير والتنظيم الشعبي - الذراع المسلح لجبهة التحرير - وكانت تهمتي أنا وأخي سيف أننا أعضاء في جبهة التحرير، بدليل السلاح الذي وجدوه بين الحطب في سقف الفرن.

وعند التحقيق معي أنكرت علاقتي بجبهة التحرير، وقلت للشاب الذي حقق معي بأنني عضو في الاتحاد الوطني لطلاب اليمن.

وعندما قلت له ذلك، طلب مني أن أريه بطاقة العضوية، ولأن البطاقة لم تكن موجودة، أرسلوا شخصًا معي للتأكد من صحة كلامي.

وعند وصولنا الفرن، أخرجت بطاقة العضوية من حقيبتي المدرسية وسلمتها له، وبعد أن أبصرها وتأكد من صحة كلامي، أعادها لي وأطلق سراحي، لكنني عدت معه ثانية إلى المعتقل لأن أخي سيف كان ما زال محتجزًا. ثم، وقد تأكدوا بأنه هو الآخر لا علاقة له بجبهة التحرير، أطلقوا سراحه وعدنا معًا إلى الفرن.

وحتى ذلك الحين، كان مخبزنا من دون اسم، وبعد إعلان الاستقلال سميناه "مخبز 14 أكتوبر".

وفي عام 1968، وأنا في الصف الثاني الإعدادي، حضر إلى الفرن شاب من نفس الحارة اشتهر بأنه أمن سري أو أمن ثوري، وشاع عنه أنه اعتقل العديد من شباب المنصورة. وكان ظهوره يثير الرعب، وكل من يراه يساوره شعور بالخوف، وكأنه حضر لاعتقاله. وعندما حضر إلى الفرن، قال لي أمام أخي سيف بأنه يريد أن يتحدث معي على انفراد، وشعرت بأنه يريد أن يعتقلني بسبب خروجي في مظاهرة طلابية، ونفس الشيء شعر به أخي سيف.

وليلتها، أخذني إلى مطعم قرب قصر المنصورة وعزمني على فاصوليا. وبعد العشاء، ونحن نمشي في الشارع، دخل في حديث معي وراح يكلمني عن المظاهرات الطلابية التي تخرج من كلية بلقيس ومن غيرها من المدارس الحكومية.

وعرفت من حديثه أنه يريد استقطابي للأمن، أو ربما يريد مني أن أكون عضوًا في واحدة من المنظمات التابعة للجبهة القومية. ومن شدة خوفي، قلت له:

الثورة انتصرت والاستعمار خرج من عدن، أيش باقي؟

قال لي بأن انتصار الثورة وخروج الاستعمار لا يعني أن النضال توقف، وراح يكلمني عن قوى الثورة المضادة وعن الطلبة الذين يتظاهرون ضد النظام الثوري الذي طرد الاستعمار.

وكنت أعرف بأن كل من ينتقد النظام يعتبرونه ثورة مضادة. وبعد أن عبرنا الشارع ذهابًا وإيابًا، سألني وقال لي:

موافق تكون معنا؟

قلت له وأنا خائف: لا.

بمجرد أن قلت له لا، ظننته سوف يعتقلني، لكنه ذهب وتركني. وعند عودتي للفرن، سألني أخي سيف وقال لي:

أيش يشتي منك؟

قلت له: يشتيني أكون معاهم.

وراح أخي سيف يحذرني ويقول لي:

انتبه، يزيدوا علوك ويدخلوك معاهم، هولا وسخين.

وليلتها، لم أنم من الخوف، وساورني شعور بأنه سيأتي ثانية ليعتقلني، خصوصًا وأنني كنت قد أصبحت حينها ثورة مضادة، أشارك في مظاهرات ما بعد الثورة وما بعد الاستقلال. وفي إحدى المظاهرات الطلابية، رحنا نجوب شوارع مدينة الشيخ عثمان ونهتف ضد الحكام الجدد، ويومها تم احتجازنا في "الشُّوكِي"، ولم يطلقوا سراحنا إلا بعد أن حضر أولياء أمورنا.

ولم أعد أذكر السبب الذي جعلنا نخرج في مظاهرة ضد حكومة ما بعد الثورة وما بعد الاستقلال، ربما كان السبب هو أننا، بعد أن تعودنا على المظاهرات وسماع دوي الانفجارات، بدت لنا الحياة من دون مظاهرات وانفجارات مملة ورتيبة.

وفعلًا، كانت أيام ما بعد الاستقلال مملة ورتيبة وخالية من الإثارة. وعن نفسي، فبعد أن قرأت شيئًا عن سيرة جيفارا المتمرد، صار هاجس التمرد يقوى لدي.

ثم، وقد توقف الطلبة عن الخروج في مظاهرات، كنت في المساء أعتكف في غرفتي بسقف الفرن وأكتب بالقلم الأحمر كلامًا ضد الحكومة في ورق سميك أشتريه من المكتبة، وفي منتصف الليل أنزل من غرفتي في سقف الفرن وأضع عجينًا في الوجه الآخر من الورقة بدلًا من الصمغ وألصقها على جدار في ركن الشارع. وفي الصباح، كنت أرى الناس يتحلقون ويقرأون ما كتبته.

وذات صباح، وهم يحملقون في الورقة الملصقة بالجدار، صاح أحدهم قائلًا وقد أبصر العجين:

والله إن الذي كتب هذا أبو الروتي.

ويومها تم القبض علي، واقتادوني إلى مكان ليس بعيدًا عن الفرن بتهمة أنني من قوى الثورة المضادة.

وعند التحقيق معي أنكرت أنني ثورة مضادة، وقلت للمحقق الشاب بأنني مع الثورة ولست مع الثورة المضادة.

وعن علاقتي بتلك المنشورات الملصقة على الجدار، أنكرت وقلت له:

مش هو أنا اللي كتبتها.

لكن العجين الذي كنت أستخدمه لتثبيت الملصق على الجدار كان شاهدًا على أن الكاتب شخص يقيم في مخبز 14 أكتوبر.

وحين وجدني المحقق مصرًّا على أقوالي وأواصل الإنكار، قال لي:

شوف يا أبو الروتي، إذا ما بتعترف أنه أنت، بانروح الآن ونقبض على كل العاملين في مخبز 14 أكتوبر.

وعندها، رأيت أن الإنكار لن يفيدني، وقد يضر بالعمال وبالعمل وبأخي سيف، فكان أن اعترفت وقلت له بأنني من كتب كل تلك المنشورات وألصقها على الجدار. وحين سألني المحقق عمّا إذا كان صاحب الفرن والعمال يعرفون بما أقوم به، أقسمت بأن أخي وكل العاملين في الفرن لا علم لهم بذلك.

ولما سألني عن السبب الذي جعلني أكتب تلك المنشورات، قلت له كلامًا قرأته في الكتاب الذي اشتريته من المكتبة عن سيرة إرنستو تشي جيفارا حول ضرورة استمرار الثورة وعدم توقفها. وكان المحقق يضحك ساخرًا من كلامي عن ضرورة استمرار الثورة، لكنه كان لطيفًا معي حتى إنه، وهو يحقق معي، عزمني على واحد شاي بالحليب.

وبعد أن عرف أخي سيف بأنني محبوس، حضر وضمنني. وبعد خروجي، راح كعادته يعزو ما أقوم به إلى السينما، وقال لي:

السينما يا عبد الكريم باتوديك في ستين داهية.

مقالات

العيد كصورة بلا روح

تكن البشرية بحاجة إلى العيد، فالفرح لا يُختزل في طقس، ولا تُولد البهجة من إعلان مؤقت، ولا يُستدعى الابتهاج بأمر إداري، ذلك أن الفرح في جوهره ليس احتفالًا، بل انبثاق. يمكنك أن تفتعل لحظة من اللاشيء

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.