مقالات

رسالة أم في الذكرى السابعة عشرة لموتها الأول

21/03/2023, 18:56:08
بقلم : هناء صالح

كان طفلي الأول أغلى هدية أهدتنيه الحياة. لحظة خروجي من غرفة العمليات وأنا بين الصَّحو والموت، أدركت أنِّي إن نجوت فسأُخلق من جديد، سأُصبح مخلوقا آخر إلى جوار ذلك الكائن الصغير، الذي خرج للتو من أحشائي.

مريضة جدا كنت في الأيام الأولى، التي تلت الولادة، كل شيء يؤلمني بشدّة، لكنني -رغم ذلك كله- كنت سعيدة أن صغيري في حالة جيّدة.

طيلة الثلاثة الأشهر الأولى، ظللت أهتم بوليدي بعناية فائقة، وكأنّ كل لحظة تمر هي آخر لحظاتي معه.

أحاسيس غير متجانسة بين الخوف والفرح. عندما كنت أنظر إليه تشرُد أفكاري، وعقلي لا يكاد يصدّق أن هذا الكائن سكن بطني لشهور طويلة، لم أتوقع أن يكون هذا هو بعد أن توقّعت كل شيء في الدنيا إلا ما هو عليه الآن.. تمر اللحظات وأنا أتأمّله، وأعد أنفاسه، وأخاف إن توقفت ثانيةً لأي سبب. 

كان نصيبي من النَّوم قليلاً جداً؛ ليس لأنه مريض، بل لأنني أخاف أن ينقلب في نومه أو يسترجع ما رضعه، وهكذا مرّت أيامي الأولى مع ابني الذي من أجله أوقفت كل نشاطاتي تماما.

وفي لحظة واحدة، في مساء يوم، كنت بدأت أتناول فيه العشاء بعد أن أنهيت رضاعة ابني، بدا لي أن كل شيء ينهار من حولي. اشتدت رقبتي، وانقطع نفَسي، ودخان أبيض كثيف غطَّى عينيَّ. بدأت احتضر، وبدأت أتلو لزوجي وقتها وصيَّتي الأخيرة، وكلها تتعلَّق بوليدي فقط، الذي بلغ من العمر ثلاثة أشهر،

وكأنِّي لا أملك في هذه الحياة إلا هو، وكأنَّه لم يعد يهمني فِراق أحد إلا هو.

إنني أموت مرَّتين. 

إنني أترك وليدي الذي للتو ألقيته إلى الحياة. في فجر اليوم التالي من غرفة الطوارئ، وأنا أتنفَّس أسطوانة الأكسجين، بكل ما أوتيت به من قوّة، أدركت أنني عدت إلى الحياة، لكن بالتأكيد ليس كما قبل. 

إنني رهينة للموت، أرجعني فقط كي اعتني بابني إلى حين.. وهذا ما حصل.

مرت السنوات، لا أعمل شيئا آخر في الحياة غير الاعتناء بابني، والصلاة التي أدعو الله فيها أن يرحمني ممَّا كنت أعانيه، لا أعرف وصفا لما كنت أعانيه وأشعر به في كل لحظة وقتها، إنه شعور المحتضرين، الذين لم ينعموا بالحياة، ولا أراحهم الموت. 

إنها اللحظات التي يصارع الناس كي لا يصلون إليها، ويدفعون تجنبا لها كل ما يملكون. 

وهكذا تُركت أنا وابني نصارع الموت وحيدين.

بعد أكثر من عقد، نجوت من أجل ابني، ولأجله صارعت حتى أنهرت تماما، ولكنني أخترت أن أنهار بعيدا عنه. 

ابني الذي يستعد لرحلة الشباب. لا يعرف عن المعارك التي كانت تدار حوله.

كل نفَس من أنفَاسي كنت أتلقَّى عنه طعنات الخوف والإهمال والتخلي من كل من هُم حولي، الذين كانوا مذهولين مما صارت إليه أحوالي، حيث لم يطيلوا التأمل، والتفتوا إلى حياتهم شاكرين الله الذي عافاهم مما ابتليت به.

لو بادر أحدهم وصاح في وجهي: إنك تعانينَ من اكتئاب ما بعد الولادة، أو أنه الاكتئاب في أسوأ حالاته، لبقيت أمتن له صنيعه ما حييت، فلم أكن أشُك ولو للحظة بأنِّي مريضة، كنت على يقين أنني احتضر كل يوم دون أمل في نهاية سريعة لمعاناتي، ولكني كنت بلا أمل في العودة إلى الحياة. 

إلى أن أتت اللحظة الفارقة.

حينها اضطررت، في أحد الأيام، إلى الذهاب إلى طبيب الأسنان؛ لأنّ أسناني بدأت تتساقط الواحدة تلو الأخرى، مع أنني كنت في بداية العشرينات، وهناك تنبَّه لي شقيق زوجي حينها، كان يرافقني عندما أغمي عليَّ مع أول مرحلة العلاج آنذاك، وهو الذي بادر بأخذي إلى طبيب نفسي بعد ما هاله ما رأى. 

الطبيب النفسي الكبير، الذي انتحر لاحقا،

هو من قال لي إنني أعاني من اكتئاب بدأ بعد الولادة، وانتهى بسبب الإهمال إلى نوبات فزع وقلق واكتئاب حاد، وأن أمامي رحلة طويلة للعلاج، لكنه -على الأقل- أعطاني أملا أتشبث به، وهذا ما حدث. 

أكتب هذه المذكرات، ولأول مرة بعد مرور ١٧ سنة، علَّها تساعد بعض الأمهات في التعرُّف على ما يمكن أن يواجهن في مرحلة ما بعد الولادة.  وعلى الآخرين أن يشعروا بفداحة الثمن، الذي تدفعه الأم عندما تنجب للحياة مخلوقا جديدا، تهب له الحياة، ويهديها التَّعب.

مقالات

عبد الودود مقشر وتاريخ تهامة

عبد الودود مقشر أستاذ أكاديمي جليل، وباحث مجتهد وقدير. رسالته للدكتوراة «حركة المقاومة والمعارضة في تهامة 1848- 1962م» أول دراسة علمية شاملة وجامعة عن تهامة.

مقالات

الوجود كصُدفة..تأملات عن الحرية

كلّ شيء يؤكد أنّ وجودنا مجرد صُدفة. ولدنا دون تخطيط، ولا أهداف محدّدة. كان يُفترض أن تستمر حياتنا مدفوعة بالمنطق البرئ نفسهض. لكنّنا تعرضنا لخديعة وجودية مرعبة، تورطنا في قبول تصورات أولية جعلت وجودنا مقيّدًا للأبد.

مقالات

المصائب لا تأتي فرادى!

قُدِّمَتْ صنعاء على طبق من فضة، أو ذهب، للمليشيات كما لم يحدث من قبل عبر التاريخ، التي بدورها استولت على كل مقدرات الدولة والجيش والشعب في غمضة عين من التاريخ والعالم والزمن، وتحالف أبشع رأس نظام سابق مع أبشع سلطة أمر واقع لتحقيق غاية واحدة

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.