مقالات
في محراب سبتمبر ٦٢
رمضان وسبتمبر شهران مختلفان عن غيرهما من ناحية، متحابان فيما بينهما متشابهان من ناحية أخرى.
لم يجتمع جلالهما معا، محبتهما، فخامتهما، سوى في نفوس اليمنيين.
شعاعان يغمران العقل والقلب معا؛ أحدهما صنعه الخالق وحده، والآخر صنعه اليمنيون، أحرارهم.
بتدبير الخالق وعدالته تنزلت في رمضان آيات القرآن، وتنزلت في سبتمبر عدالة الرحمن.
شهران للفكر والعمل،
للعقل والروح،
للوطن والذات..
في سبتمبر من كل عام يجتاحني شعور يشبه الشعور الذي يجتاحني في رمضان؛ شعور لا أقوى على مقاومته أو الهروب منه.
أجدني فيه ومعه كما لو أنني في رمضان:
في رمضان لا أنقطع للتبتل والعبادة. لم أستطع وأرجو أن أستطيع، وإن في عام واحد قادم.
لكني -كما معظم المسلمين- أحاول أن أكون فيهما -العبادة والتبتل- أفضل مما هو حالي معهما في سائر الشهور.
هو شهر التحرر الروحي من علائق الدنيا، من التفاهات والسفاسف؛ ومن الأصنام البشرية أيضا.
هو شهر الاتصال الأوثق بالخالق وحده.
رمضان هو شهر التحرر الروحي الديني، وسبتمبر لليمنيين هو شهر التحرر الوطني.
الشهران ينطوي أحدهما على الساعات الأعظم جلالا في تاريخهم الوطني، وينطوي الآخر على الساعات الأعظم جلالا في حياتهم الدُينية.
أحدهما يحتضن أعظم الليالي، والآخر يحتضن أعظم الأيام.
أشعر بالتوتر الديني الروحي في رمضان، وأشعر بالتوتر الفكري الروحي في سبتمبر.
دقات قلبي تزداد، وتتضاعف في سبتمبر. وفي ساعات، في العشر الأواخر منه، لا أحب أن يكلمني أحدٌ أو أكلم أحدا.
أعيشها في محراب الجمهورية؛ استنفر الروح..
سبتمبر ٦٢ هو روح اليمنيين في العصر الحديث، والسادس والعشرون منه هو يوم أيامهم وسيّدها، هو خلاصة ألف عام من نضالهم،
هو الهوية والوجود، هو اليوم الأعظم جلالا وفخامة في ١٣٠٠ عام من حياتهم. هو يوم التحرر الشامل من القيد الشامل؛ التحرر مما كان يمنعهم من الاتصال الصحي المباشر مع الوجود كله: مع خالقهم، مع العالم، مع بعضهم بعضا، حتى مع قلوبهم وعقولهم.
هو اليوم الذي عرفوا فيه أنفسهم والعالم: كانوا قد سُلبوا ذاكرتهم فنسوا أنفسهم والعالم، وحين أعاد لهم سبتمبر ٢٦ ذاكرتهم عرفوا أنفسهم من جديد، وعرفوا العالم؛ عرفوا أن لهم عقولا تفكر وأقداما تسعى، وأيادي تبتكر، وأن بلادهم مكتظة بالنفائس، وأن لهم تاريخا وهوية.
سبتمبر.. حق على اليمنيين أن يصوموا فيه عن الكلام، عدا الكلام في فضله وفضائله، عن التفكير عدا التفكير في عظمته..
رمضان طريقان يوصلان إلى الله الكريم، أحد الطريقين اتصال مباشر بالخالق الكريم في شكله ومضمونه؛ بالصوم ذاته، وسائر العبادات المحضة والشعائر. ثاني الطريقين: الإحسان إلى الناس؛ هو في الشكل اتصال بالمخلوقين، وحقيقته اتصال مباشر بالخالق الكريم.
أي الطريقين أعظم عند الله؟ كثيرا ما يكون، وغالبا ما يكون، الطريق الثاني هو الأعظم عند الله، والأسرع إلى رضوانه.
سبتمبر ٢٦ هو من النوع الثاني آنف الذكر: الإحسان إلى الناس؛ في ظاهره وحقيقته، في شكله ومضمونه؛ لكنه في الإحسان، ليس كما هو يوم رمضان، مجرد يوم للإحسان، ببعض المتاعات....، على بعض الناس
هو يوم الإحسان الأعظم في تاريخ اليمن.
اليوم، الذي أحسنت فيه ثلة من اليمنيين ليس إلى عدد قليل من اليمنيين بل إلى جميع اليمنيين من ناحية، وبنوع الإحسان؛ الحرية، الذي -لعظمته وجلاله- لا يدانيه إحسان البتة من ناحية أخرى، وعلى نحو لم يحدث إحسان مثله في ألف وثلاثمائة عام من تاريخ اليمن من ناحية ثالثة.
كانت الثلة اليمنية، التي أتت بسبتمبر ٢٦ تدرك أن حرية الفرد والمجتمع تعني الحياة نفسها، وأن ما تفعله لليمنيين هو بالضبط منحهم الحياة، إحياؤهم.
كانت تعلم بأن:
أعظم الإحسان تحرير الإنسان،
وأن أعظم العبادات تحرير المجتمعات.
وحدها تلك الثلة أدركت عظمة ما قامت به؛ سبب ذلك أنها الثلة الوحيدة التي كان أعضاؤها أحرارا.
سبتمبر ٢٦.. هل يعي اليمنيون جلال هذا اليوم وعظمته؟
الإجابة واضحة: فقط إن كانوا أحرارا!