تقارير
الصراع في البحر الأحمر.. لماذا تتعمد أمريكا الفشل أمام الحوثيين؟
أن تجتمع عدد من الدول الكبرى في تحالف أطلق عليه اسم "تحالف الازدهار" بقيادة الولايات المتحدة، ثم تحالف "أسبيدس"، لمواجهة هجمات الحوثيين ضد السفن التجارية والعسكرية في البحر الأحمر، ودخول المواجهات عامها الثاني دون أن تتمكن الدول الكبرى من إجبار الحوثيين على وقف هجماتهم، فالأمر يثير الاستغراب من عدة جوانب، أولا عن حقيقة هجمات الحوثيين وما إذا كانت فعالة وتستدعي ردا عسكريا واسعا أم لا، وثانيا حول مدى جدية الولايات المتحدة وحلفائها في إجبار الحوثيين على وقف هجماتهم، وثالثا عن كواليس الصمت المطبق لدول عربية وغربية عن تداعيات هجمات الحوثيين على مصالحها والأضرار الناجمة عن ذلك.
تعد السيطرة على المضائق والبحار في العالم من أهم ركائز العقيدة العسكرية الأمريكية، وهي دولة عظمى لا تجرؤ أي من الدول الكبرى على مناوشتها عسكريا أو إطلاق حتى رصاصة واحدة على قواعدها العسكرية المنتشرة في المحيطات والبحار وبالقرب من المضائق البحرية، وذلك خشية الرد العنيف من دولة لديها من الأسلحة النووية وغيرها ما يكفي لتدمير الكرة الأرضية عدة مرات.
لكن تعمد أمريكا العجز والفشل أمام مليشيا الحوثيين في البحر الأحمر منذ عام تقريبا، وهي مليشيا لا تمثل شيئا يذكر قياسا بالقوة العسكرية الأمريكية، فالأمر هنا يثير العديد من التساؤلات حول هذه الظاهرة التي لا يقبلها العقل والمنطق، ويصعب حتى تفسير الأمر بأنه تدليل أمريكي مبالغ فيه للحوثيين أو تودد سياسي لهم أملا في أن يكونوا مستقبلا وكلاء مخلصين لأمريكا في المنطقة، لانعدام أي مواصفات في الحوثيين تؤهلهم لمثل هكذا مهام، خصوصا أن مستقبلهم السياسي في اليمن مرهون بإرادة اليمنيين عندما يوحدون صفوفهم للقضاء على الانقلاب الحوثي واستعادة الدولة. وإذا افترضنا أن أمريكا تريد استثمار الحوثيين في مهام آنية أو مؤجلة، فهل تلك المهام تستدعي أن تصبر على آذاهم وتتخلى عن أحد أهم ركائز عقيدتها العسكرية؟
- كيف بدأ الصراع في البحر الأحمر؟
عقب العدوان الصهيوني على قطاع غزة، إثر هجوم 7 أكتوبر 2023، بدأ الحوثيون باستهداف ناقلات النفط وسفن الشحن المرتبطة بإسرائيل في جنوبي البحر الأحمر، بذريعة مساندة قطاع غزة، وازدادت وتيرة الهجمات منذ أواخر نوفمبر 2023، التي استهدفت ناقلات بصواريخ كروز وطائرات مسيرة.
وبعد ازدياد هجمات الحوثيين، تحدثت وزارة الدفاع الأمريكية عن خطط لإنشاء "قوة بحرية" متعددة الجنسيات للتصدي للهجمات الحوثية. وبعدها بأيام، في 18 ديسمبر 2023، أعلن وزير الدفاع الأمريكي، لويد أوستن، في البحرين، عن تشكيل تحالف دولي بحري باسم "تحالف الازدهار"، وجاء الإعلان عقب اجتماع افتراضي مع مسؤولين من أكثر من 40 دولة، لمناقشة التهديدات الحوثية.
وعقب الإعلان عن تحالف "حارس الازدهار"، في 19 ديسمبر 2023، بدأت مليشيا الحوثيين باستهداف سفن من جنسيات مختلفة، مما استدعى تدخل قوات "تحالف الازدهار" لإسقاط الصواريخ والطائرات المسيرة. ويبدو أن إيران زودت الحوثيين بأسلحة جديدة لإرباك التحالف الدولي، حيث بدأ الحوثيون، في منتصف يناير 2024، باستخدام زوارق متفجرة غير مأهولة لاستهداف السفن.
وبدءا من فبراير 2024، أدخل الحوثيون الغواصات غير المأهولة، واستمرت هجماتهم ضد السفن بشكل متفاوت وباستخدام أنواع مختلفة من الأسلحة، والزعم باستهداف مواقع للجيش الإسرائيلي في فلسطين المحتلة، وسط شكوك حول مدى مصداقية وسائل إعلام الحوثيين وبيانات متحدثهم العسكري شبه اليومية عن هجماتهم على السفن التجارية والحربية ومواقع الجيش الإسرائيلي.
وفي المقابل، أصدر مجلس الأمن القرار رقم 2217 الذي أدان هجمات الحوثيين وطالب بوقفها، ودعا إلى الإفراج عن السفينة المحتجزة لدى الحوثيين، غالاكسي ليدر، وقد مهد ذلك القرار قانونيا لعمليات عسكرية لاحقة ضد الحوثيين، حيث بدأت الولايات المتحدة وبريطانيا بتنفيذ ضربات استباقية، منذ 12 يناير 2024، استهدفت مواقع حوثية بينها مراكز تصنيع طائرات مسيرة ومخازن أسلحة، للحد من قدراتهم العسكرية، في حين ينفي الحوثيون تعرض مراكز تصنيع الطائرات المسيرة ومخازن الأسلحة لهجمات التحالف الدولي، ويزعمون أن تلك الضربات استهدفت مواقع فارغة.
وفي 18 يناير 2024، صنفت الولايات المتحدة الحوثيين كـ"تنظيم إرهابي عالمي خاص"، مما سمح بفرض عقوبات شاملة، وتبعتها دول أخرى في تصنيف الحوثيين الأخير. وفي 19 فبراير 2024، أعلن الاتحاد الأوروبي عن إنشاء قوة بحرية لحماية الملاحة في جنوبي البحر الأحمر، بميزانية بلغت 8 ملايين يورو، تحمل اسم "أسبيدس"، بالتنسيق مع تحالف "حارس الازدهار" والقوى الإقليمية الأخرى.
- لماذا المقاربة الأمريكية ضد الحوثيين غير فعالة؟
لم تفلح الولايات المتحدة والدول الغربية في إجبار الحوثيين على وقف هجاتهم أو إضعاف قدراتهم، وذلك لعدة أسباب، من أهمها أن التحركات الأمنية لأمريكا وحلفائها اتخذت طابعا دفاعيا ضد هجمات الحوثيين، تشترك في ذلك كل الهياكل الأمنية الجديدة، مثل "تحالف الازدهار" وقوة "أسبيدس" الأوروبية، كما أن الضربات الأمريكية ضد الحوثيين كانت خارج هذه الهياكل، مما يقلل من التنسيق والردع الفعال.
يضاف إلى ذلك ضعف العمليات النوعية، فبالرغم من تنفيذ عشرات الهجمات الأمريكية والبريطانية على مواقع للحوثيين طوال الأشهر الماضية، لكن تلك العمليات لم تؤثر بشكل حاسم على قدرات الحوثيين، وذلك لأن الحوثيين يعتمدون على منصات بدائية ومتنقلة، مما يجنبهم كثيرا من الضربات.
فشل الضغط العسكري على الحوثيين يوازيه فشل في الضغط السياسي، فمثلا إعادة تصنيف الحوثيين "تنظيم إرهابي" لم يضعفهم ماليا أو عسكريا، كونهم يعتمدون على تهريب الأسلحة من إيران وعلى الموارد المحلية لتموين عملياتهم العسكرية، وتحميل التجار والمزارعين والمواطنين في مناطق سيطرتهم فاتورة الحرب، وبدا أن قرار إعادة تصنيفهم "تنظيم إرهابي" كأداة ضغط مؤقتة ترتبط بالمسار السياسي للسلام في اليمن.
وبالرغم من كل ما سبق، فقد واصل الحوثيون هجماتهم التي شملت أهدافا نوعية في بعض الحالات، لكن لم ينجم عنها أضرار كبيرة، وهكذا بدت المواجهات محكومة بضوابط تحول دون التصعيد الشامل، فهجمات الحوثيين منضبطة ومحدودة التأثير، بينما المقاربة الأمريكية والغربية تجمع بين الردع العسكري المحدود والضغط السياسي، لكنها تعاني من عدم الترابط والتأثير في وقف هجمات الحوثيين، وتفاوت الاستجابات بين القوى الغربية والإقليمية، والتجزئة بين الملفات الساخنة في المنطقة، وعزوف الدول الأوروبية والدول المشاطئة للبحر الأحمر عن المشاركة الفاعلة.
هذا العزوف ربما مرده إلى العقيدة العسكرية الأمريكية بشأن السيطرة على المضائق والبحار في العالم كله وليس في الشرق الأوسط فقط، وبالتالي فالقوى الإقليمية والدولية لا تريد التورط في صراعات كهذه ترى أنها من صميم العقيدة العسكرية الأمريكية، كما أن تلاعب أمريكا بملف الحوثيين منذ انقلابهم على السلطة الشرعية في اليمن جعل كثيرا من الدول حذرة في المشاركة إلى جانب أمريكا في مواجهة هجمات الحوثيين.
- هل تخلت أمريكا عن عقيدتها العسكرية لمصلحة الحوثيين؟
تعد الهيمنة على المضائق والبحار من أهم ركائز العقيدة العسكرية الأمريكية لضمان تفوقها العسكري، وتتمثل في ضمان حرية الملاحة عبر الممرات الحيوية مثل مضيق هرمز ومضيق ملقا ومضيق باب المندب، وتعزز أمريكا وجودها العسكري في هذه الممرات من خلال الأساطيل البحرية المنتشرة بالقرب منها، مما يمكنها من التدخل السريع في أي أزمة أو تهديدات طارئة.
وتعتمد البحرية الأمريكية على أسطول متقدم من حاملات الطائرات والغواصات بما فيها الغواصات النووية لحماية الممرات البحرية وضمان التدفق المستمر للموارد الأساسية مثل النفط، وتساهم تلك القواعد في تعزيز قدرة الولايات المتحدة على التدخل السريع والسيطرة على المضائق، وتعمل تلك القوات بالتنسيق مع حلفاء واشنطن مثل حلف الناتو ودول الخليج، وهو ما يوسع من نفوذ الولايات المتحدة في المناطق الحساسة. ورغم كل ذلك، لماذا فشلت الولايات المتحدة في أول اختبار لحماية أحد أهم المضائق البحرية في العالم أمام هجمات الحوثيين؟ وهل ذلك فشل فعلي أم أنه عجز متعمد لتحقيق أهداف أخرى؟
إن فشل الولايات المتحدة أمام الحوثيين يثير الشكوك حول قدرتها على مواجهة التحديات التي تواجهها عقيدتها العسكرية بشأن الهيمنة على المضائق والبحار، وتشمل تلك التحديات التنافس المتزايد من جانب الصين وروسيا اللتين تعملان على تعزيز وجودهما البحري، وهو ما يهدد النفوذ الأمريكي في بعض المناطق الإستراتيجية، والفشل في إدارة التوترات الإقليمية مثل التوترات التي تثيرها إيران وكوريا الشمالية، والتي قد تؤثر بشكل متزايد على حرية الملاحة.
- هل تغير إدارة ترامب طريقة مواجهة الحوثيين؟
هناك من يعتقدون أن إدارة الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب، الذي فاز في الانتخابات الأخيرة، قد تغير من طريقة تعامل إدارة الرئيس جو بايدن في التعامل مع تهديدات الحوثيين للملاحة الدولية عبر البحر الأحمر، لكن أي تغيير لن يخرج عن السياق العام للإدارات الأمريكية المتعاقبة في التعامل مع ملفات منطقة الشرق الأوسط والعالم، وأي تصعيد في الضربات ضد الحوثيين لن يحقق الهدف الأمريكي بردعهم، وستظل الضربات مجرد إجراءات تحذيرية فقط، لأن المصالح الأمريكية لم تتضرر جراء هجمات الحوثيين، وفي حال تعرضت لأضرار كبيرة فإن أي إدارة أمريكية ستواجه الحوثيين بحزم وعنف، لكن ليس لدرجة القضاء عليهم وإزاحتهم من المشهد اليمني.
وبالرغم من هيمنة الولايات المتحدة على المضائق والبحار، فإنها ما زالت تواصل تعزيز وجودها العسكري وتطوير إستراتيجيات جديدة للحفاظ على هيمنتها البحرية وضمان أمنها وأمن من تصفهم بحلفائها، لكن تلاعبها بملف أمن البحر الأحمر وتهديدات الحوثيين يشجع القوى الأخرى على تحدي الهيمنة الأمريكية في مناطق أخرى من العالم.
- أهداف الفشل المتعمد أمام الحوثيين؟
لا شك أن الولايات المتحدة قادرة على مواجهة الحوثيين بحزم ومنعهم من تهديد أمن البحر الأحمر، لكنها تتعمد العجز والفشل أمامهم، ليس كما يروج البعض بأنها حريصة على عدم انزلاق المنطقة إلى حرب شاملة، ولكن لأنها، أي الولايات المتحدة، تريد الإبقاء على الحوثيين لاستخدامهم كفزاعة في وجه السعودية، وإيجاد مبررات لاستمرار بقاء قواعدها العسكرية في المنطقة، وإدارة الأزمات بما يخدم مصالحها الإستراتيجية، مثل توظيف تهديدات الحوثيين لعسكرة البحر الأحمر وحشد مزيد من القوات والأساطيل البحرية إلى المنطقة للحد من نفوذ الصين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ عبر تحالفات عسكرية مثل تحالف "أوكوس".
وهكذا ستظل الهجمات الأمريكية ضد الحوثيين مجرد تدابير حذرة، ولن تتخذ تدابير عسكرية شاملة قد تغير التوازنات القائمة في اليمن، لأن ذلك سيُواجَه برفض حلفاء واشنطن في المنطقة الفاعلين في المشهد اليمني، وتحديدا السعودية والإمارات، ولذا ستظل الضربات الأمريكية ضد الحوثيين محدودة التأثير، مثلما أن تهديدات الحوثيين لا تؤثر على الاقتصاد الأمريكي، وأيضا الاقتصاد الإسرائيلي، نظرا لتنوع طرق التجارة الأمريكية، ومحدودية التجارة الإسرائيلية مع دول جنوب شرقي آسيا.
الخلاصة، سيواصل الحوثيون تهديداتهم لأمن البحر الأحمر دون نتائج تذكر، وإنما لتحقيق فرقعات إعلامية موجهة بشكل رئيسي لأغراض سياسية محلية وإقليمية من أجل كسب الدعم والتموضع في المحور الإيراني للاستقواء به على الخصوم المحليين مستقبلا. وفي المقابل، ستظل الولايات المتحدة تنفذ هجمات تحذيرية ومحدودة التأثير على مواقع لمليشيا الحوثيين، دون أن تصل تلك الهجمات إلى مستوى الردع، بسبب الأهداف الإستراتيجية الأكبر لواشنطن في المنطقة، ولن تشن حربا شاملة ضدهم إلا في حال شكلوا تهديدا جديا لمصالحها في الإقليم.