تقارير
كابوس قديم.. كيف أعادت الغارات الجوية شبح أزمة الوقود إلى مناطق سيطرة الحوثيين؟
لا تبدو الصباحات عادية في صنعاء، إذ تمتد الطوابير أمام محطات البنزين لعشرات الأمتار، بينما ارتفعت أسعار المشتقات في السوق السوداء بمناطق سيطرة الحوثيين إلى أرقام قياسية خلال أيام، في مشهد أعاد إلى الأذهان بدايات الحرب وشبح أزمة الوقود، بعد أن ظنّ البعض أن زمن الأزمات المتواصلة قد ولّى، أو على الأقل دخل في “هدنة مؤقتة”.
وعادت أزمة المشتقات النفطية مجددًا إلى مناطق سيطرة الحوثيين، بعد أيام من الضربات الجوية الإسرائيلية التي استهدفت مواقع حيوية، بينها موانئ الحديدة، ردًا على استهداف الحوثيين لمطار بن غوريون في تل أبيب بطائرات مسيّرة، بحسب الرواية الإسرائيلية.
وعلى الرغم من إعلان الحوثيين، بعد أربعة أيام فقط، أن الأزمة “في طريقها للحل”، فإن مؤشرات الواقع تقول عكس ذلك.
في شارع القيادة وسط صنعاء، قال المواطن محمد الصوفي، وهو سائق أجرة: “منذ ثلاث سنوات لم نقف هذا الصف الطويل. لا بنزين ولا غاز ولا كهرباء. كأننا عدنا إلى سنوات الحرب الأولى. الأسعار تضاعفت، ولا أحد يجرؤ على الاعتراض”.
أما أم أمين، وهي ربة منزل من حي شعوب، فقالت: “عندما بدأت الحرب كنا نخبز بالحطب، واليوم نعود له. لم نحصل على غاز منذ أسبوع، والتوزيع عبر العقال تحوّل إلى وسيلة للتربّح والوساطات”.
وبينما كان بعض المواطنين يتحدثون عن عودة السوق السوداء في وضح النهار، أكد بائع في أحد الأحياء أن “صفيحة البنزين ارتفعت مؤخرًا بشكل كبير، والطلب يزداد”.
أسباب أخرى
بحسب مصادر مطلعة في وزارة النفط الخاضعة لسيطرة الحوثيين، فإن الضربات الأخيرة على موانئ الحديدة، التي تستخدمها الجماعة لاستقبال الشحنات النفطية من ممرات غير رسمية، أربكت عمليات التوزيع، ودفعت بعض التجار إلى وقف إدخال الشحنات خشية الاستهداف.
وقال أحد العاملين في شركة توزيع نفطية بصنعاء - طلب عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية - إن “الحوثيين استبقوا الأزمة بتخزين كميات كبيرة من الوقود، لكن الغارات فاجأتهم. الميناء شبه مشلول، والتصاريح الدولية أصبحت أبطأ بعد تصعيد الجماعة ضد إسرائيل”.
يقول ناصر العبسي، مالك مخبز صغير في حي النهضة: “نحن نعتمد على مولد كهربائي بسبب انقطاع التيار. كلما ارتفع سعر الديزل، زاد علينا الضغط. رفعنا سعر القرص من 50 ريالًا، والزبائن بدأوا بالتذمر”.
تعكس الأزمة جانبًا من التعقيد السياسي والعسكري الذي يمر به اليمن. فالحوثيون، الذين يسيطرون على معظم مناطق الشمال، يستخدمون الموانئ كورقة ضغط، سواء على الحكومة الشرعية أو على التحالف بقيادة السعودية. لكن دخول إسرائيل على خط المعادلة، بعد انخراط الحوثيين المباشر في التصعيد الإقليمي دعمًا لحماس، خلط الأوراق بشكل غير مسبوق.
يقول الباحث السياسي عبدالسلام محمد، مدير مركز أبعاد للدراسات: “الحوثيون يدفعون ثمن التصعيد الخارجي من جيب المواطن اليمني. الغارات الإسرائيلية قد تكون محدودة، لكن أثرها النفسي والاقتصادي عميق، ويهدد بتفجير الوضع الإنساني الهش”.
أزمات متداخلة
وبحسب تقرير حديث للأمم المتحدة صدر مطلع هذا الشهر، فإن أكثر من 17 مليون يمني يعتمدون بشكل مباشر على المساعدات الإنسانية، بينهم 5.5 ملايين في مناطق سيطرة الحوثيين. ويؤكد التقرير أن أي اضطراب في إمدادات الوقود يؤدي مباشرة إلى نقص في الغذاء والدواء والمياه.
ويقول أحد موظفي منظمة “أوكسفام” في صنعاء: “بعض المستشفيات بدأت تغلق أقسامًا بسبب عجزها عن تشغيل المولدات. أزمة الوقود لا تعني فقط توقف المواصلات، بل تهدد حياة المرضى ومصادر المياه والطاقة والغذاء”.
وخلال السنوات الثلاث الماضية، ساد نوع من الاستقرار النسبي في تموين المشتقات، مع دخول اليمن مرحلة “اللاسلم واللاحرب”، وفق التعبير الشائع سياسيًا. لكن يبدو أن هذا التوازن الهش بدأ ينهار مع انخراط الحوثيين في النزاع الإقليمي وتهديد خطوط الإمداد مجددًا.
ويقول خبراء اقتصاديون: “أي تصعيد عسكري في الموانئ يُترجم فورًا إلى أزمة اقتصادية داخلية. الحوثيون يديرون السوق كسلطة أمر واقع، ويستغلون أي ظرف لفرض جبايات جديدة. وغياب الشفافية يزيد الوضع سوءًا”.
وتتصاعد المخاوف الآن من امتداد الأزمة إلى قطاعات أوسع. إذ تحدث مواطنون في محافظة إب عن صعوبات متزايدة في الحصول على الديزل لتشغيل الآبار الزراعية، بينما شكا مربّو المواشي في ذمار من نقص الأعلاف وارتفاع تكاليف النقل.
وحذر تقرير صادر عن مركز الدراسات الاقتصادية في صنعاء من أن “استمرار الأزمة لأكثر من أسبوعين قد ينعكس على أسعار المواد الغذائية بنسبة تصل إلى 30%”، في بلد يستورد نحو 90% من احتياجاته الغذائية.
وغالبًا ما تؤكد أزمة الوقود، التي تشهدها اليمن بين الحين والآخر، هشاشة الوضع في بلد يعيش على حافة الانهيار، بين التهدئة والانفجار. وفي الوقت الذي تدور فيه المواجهات على مستويات إقليمية، يبقى المواطن اليمني وحده من يدفع الثمن.