مقالات
ابتسموا: السفير في صنعاء..
"السفير في صنعاء"، هذا هو العنوان الصاخب طوال الأيام الماضية في اليمن. السفير في صنعاء، هكذا لا تحتاج أن تقول سفير من في صنعاء؛ سيفهم الجميع أنه سفير المملكة. هذه الدولة التي ظلت تتحكم بمصيرنا منذ عقود، وتعلمون أي مصير نحن فيه الآن، وأي مصير يُحتمل أن تُفضي إليه هذه اللحظة الحاسمة.
إنها لحظات للمساومة، للبيع والشراء. لحظة تتزعم فيها السعودية مسارا جديدا، عنوانه: مزيد من التنازلات.
مسار السلام لا يمكن أن يكون سوى انعكاس لمسار الحرب. بمثل الطريقة، التي أدارت بها المملكة حربها، ستدير سلامها؛ حالة من الارتجال والعشوائية وفقدان التخطيط الحصيف لما تقوم به. ولا يمكن لأكثر الأمزجة تفاؤلًا -شريطة تجردها- أن تعدكم بصورة مختلفة للمصير…
ومع ذلك، ستلاحظون أصواتاً تحترف صياغة الغطاءات النَّظرية المفتعلة؛ كي تسوِّق لكم اللعبة. سيخرج عليكم مثقفو البلاد -في الحقيقة أشباه مثقفين- كلّ واحد يُخيط لكم تحليلاً من رأسه؛ كي يبيع لكم الوهم. سيقول أحدهم: لقد أخضع الحوثي المملكة، وسيردُ آخر: بل لقد حققت المملكة نصرا وعادت كدولة مركزية تتحكم بطرفي الصراع: الحوثي والشرعية.
الأمر لا يتجاوز بيع كلمات. لعبة سهلة وبلا أي كلفة أخلاقية. أوهام، أوهام أيها الناس. هذه النخبة زائفة، بلا ضمير. ولسوف تخونكم ألف مرة، ولا تشعر بالحرج. أنتم متعبون وترغبون بسماع أي أمل ولو كان يخفي تحته خديعة. المهم أن تصرف لكم الرواتب، وتُفتح المطارات. ثم يستمرون باللعب على مصيركم وحياكة مصير خادع لا يضمن لكم دولة، لا ينهي الحرب ولا ينتزع أسبابها، فقط يُجمدها، يأخذون نَفَسا؛ كي يهضمون مكاسبهم ثم يفاجئونكم بحرب جديدة أشد مرارة وقسوة. حينها ستتأكدون أن حربهم لأساب تخصهم وسلامهم كذلك. وأنتم خارج المعادلة ولا قيمة لكم، سوى أنكم حطب للنيران وفكرة تبريرية فحسب.
الحقيقة أن الفاشلين في الحرب فاشلون في السلام. ما يحدث في صنعاء ليس لقاء متحاربين شرفاء، بل تجار دماء ومتصارعو مصالح يفتقدون للشرف الإنساني.
ثماني سنوات أشبعونا مخاوف ومذلات، ثم ختموها بسلام يؤسس لمهانة مستديمة ومستقبل مجهول.
"إنه يوم للألم"؛ بحسب وصف أحد المثقفين، شرفاء البقية الباقية. ومن يحرصون على مكاشفة مجتمعاتهم بحقيقة ما يجري التحضير له وبصدق.
يردد أنصار السلام المدنس: "كل حرب لا بُد أن تنتهي بسلام"، نعم هذه فكرة يفقهها الأطفال.
كل حرب تنتهي بسلام؛ لكن ما حدث ليست حربا بمفهوم الصراع الحر ذي الغاية النبيلة؛ بل صراع اللئام. صراع لا يحضر الناس فيه كغاية، ولا صيانة حياتهم كهدف. وبالمثل فسلامهم يستخف بالناس مهما ادّعى حرصه على مستقبلهم.
لا يمكن لمحارب فاشل أن يكون مفاوضا ناجحا، ولا يمكن للساسة الذين أخفقوا في تأمين مصير الناس أن يُوثق بهم في إنجاز تسوية محاطة بالنباهة، وتفكر بشكل جذري في طبيعة الصراع وإلى أين مفترض أن ينتهي.
هل هذا السلام يمكن أن يؤسس لدولة محترمة؟ هل انصهرت القوى وباتت مستعدة للقبول بقواعد حياة ملائمة لكل الناس..؟ هل الدخول في مفاوضات يبدو مأمونا، هل أنت في وضع يسمح لك بإخضاع خصمك لصيغة سلام مصمونة العاقبة.
من زاوية بعيدة، هل سيناقش السفير مبدأ الحرية، ويلزم خصمه بها؛ حرية المجتمع المرتعد تحت بندقية السلالة؟ هل هذا سلام يهدف إلى تحرير البشر أم شرعنة قيودهم ومباركة جلادهم، ومنحه مزيدا من المكآفات لعناده وعبثيته، وعدم استعداده لتحمل أي مسؤولية؟
الحروب الشريفة لا تهدف إلى توفير الخبز للناس، بل الخبز والدولة الضامنة للحريات. يجدر بالسلام أن يهدف إلى تطبيع الحياة؛ كي يكون سلاما محترما، وقبل هذا عليه أن يلزم الطرف الآخر بالمبادئ التأسيسية للحياة. أما سلام تقني - لحظي، أقصى غايته حماية الجارة من الطائرات المسيّرة، فهو سلام يخصهم. سلام لا يوجد ما يحمسنا لمباركته. سلام العار. سلام ذهب إليه طرف بعد أن أرهقته الحرب، وللدقة بعد أن أثبت عدم أهليته لخوض حرب شريفة تحمي المستقبل من توغل القوى العبثية ذات الأمزجة العدائية، والاستعداد المتواصل لقرع طبول الحرب في أي لحظة. ما الذي في السلام يمكنه أن يردع الطرف الحوثي المفجِّر للحرب؛ كي لا يفكر بها مستقبلا..؟
على العكس من الهدف المأمول؛ الطريقة الحالية في خوض السلام مع الحوثي تؤكد له فكرته المجرمة بأن الحرب كانت سبيله المختصر ووسيلته السحرية للصعود وانتزاع كل ما يحلم به وأكثر. فشلكم في تقويض عنجهيته بالحرب، وإغراءتكم له في السلام، عاملان يعززن لدى الحوثي الأوهام، ويرسخان لديه إيمانه بمنهجه. ولسوف يعود إلى مناوشتكم مستقبلا، وابتكار وسائل للأذئ أكبر مما لديه الآن، وقد جعلتموه يسمن أكثر مما كان عليه. إنكم تربّون أفعى لتغدو حيّة تبتلعكم مستقبلا.
حسنا أيها الشعب المستباح: واصلوا ابتكار النكت، والسخرية منهم جميعا، لن تخسروا شيئا، فيما لو رفضتم خطواتهم المشبوهة، لن تستطيعوا أن توقفوا ترتيباتهم الجديدة؛ لكن يكفي ألا تكونوا مساهمين في خيانة مستقبل أجيالكم. يكفي أن نتعلم من دروس السنوات المريرة. هؤلاء الذين سفكوا دمنا، وجعلونا نعيش خائفين وملأوا حياتنا دموعا ومذلات؛ غير جديرين بالثقة، مثلما أظهروا سفالتهم في الحرب، ومزّقوا حياتنا بتلك الوحشية، هم في السلام مشبوهون أيضا. يليق بهم أن تكيلوا لهم الشتيمة، وتشككوا بهم مليون مرّة. لن تندموا على أي موقف مرتاب؛ ستندمون لو قبلتم الأوهام، وتواطأتم معهم ضد أنفسكم.
يلعن أبوها مهرة.