مقالات

أبو الروتي (11)

08/12/2024, 09:56:44

كانت كافيتا (فتاة كشمير) تقيم في شارعنا (شارع الاتحاد)، وتسكن في بيت مجاور لبيت الحاج، وكانت أكبر منِّي بعامين، أو ربما بثلاثة أعوام، لكن جمالها كان ملفتا واستثنائيا، وغير مألوف، وكان شعرها أكثر نعومة من شال حريرٍ كشميري، وكلامها رقيقا في غاية الرقة، وبشرتها ناعمة الملمس، لكأنّ الله خلقها من الدهن، وليس من الطين.

كنتُ حين أراها قادمةً من بيتها لشراء الروتي أتركُ كل شيء، وكل من حولي، وأجري إليها لأضع نفسي في خدمتها، ورهن إشارتها..

وفي الأيام التي كانت فيه قوات الاحتلال تفرضُ حظر التجوال من  المغرب، وتُلزم السكان بالبقاء في بيوتهم، وتطلق النار على كل من يتحرك في الشارع، بعد إعلان الحظر، كنت أنا (أبو الروتي) أغامرُ وأخرجُ وأكسرُ الحظر، وأوصِّل الروتي إلى بيتها. 

وكانت أمها، التي نسيتُ اسمها، قد قالت عنِّي -بعد أن كسرت الحظر وأوصلت الروتي إلى البيت- إنني بطل، وكان كلامها ذاك أمام كافيتا قد أفرحني، وأشعرني بالزهو.

ومن حينها، رحتُ من أجل عيون كافيتا أكسر الحظر المرة بعد الأخرى، وأتصرف كبطل، لكن كيف لكافيتا الحلوة أن تستمر في تصديق قول أمها عنِّي إني بطل بعد أن رأت البطل مضروبا ومفروشا في الشارع، وملابسه المدرسية ملطخة وممزقة ومنزوعة الأزرار؟!!

كانت أم كافِيْتَا تستدعيني لقضاء حوائجها.. وكثيرا ما كانت ترسلني لأشتري لها "تُمْبُلْ" من عند بائع "التُّمْبُل" في كُشْكِه القريب من مقهى"زكُّو"، عند نهاية سوق الطويل، وبداية الميدان، وكنتُ أفرحُ كلما نادتني أو أشّرتْ لي من باب بيتها أن أقبل؛ كيما ترسلني في مهمة.

وكان ما يدفعني إلى خدمتها هو رغبتي في رؤية كافيتا، التي كانت قد جعلت منِّي عبدًا لأمها من دون أن تدري.

كنتُ كلما دخلتُ بيتها وجدتها تمشِّط شعرها، وكأنه لا عمل لها غيره. وكان شعرها، وهو ينسكبُ بتلك الغزارة إلى ما تحت ركبتيها، يقذف بي إلى تُخُوم الأساطير، ويذكرني ببنات الملوك والسلاطين اللاتي كان العفاريت والمردة يختطفونهن، ويعلقونهن من شعورهنّ في أقبيةِ قصورهم وقلاعهم، في الحكايات التي كان يحكيها لنا أخي سيف في رمضان، حين يأتي من عدن لقضاء إجازته. 

كانت تلك أول مرةٍ في حياتي أرى فتاةً في غاية الجمال تكشفُ عن شعرها أمامي، وتمشطه قدامي، أنا القادمُ من قريةٍ تؤمن بأن شعر المرأة عورة. 

وعندما كانت أمها تطلبُ منها أن تغطي شعرها، وتتوقّف عن مشطه في حضوري، كانت تعاندُ وتواصلُ مشطه؛ ربما لأنني "أبو الروتي"، أو ربما لأنني الوحيد الذي كنتُ أدخل بيتها وأقفُ أمام شعرها المنسدل إلى ما تحت ركبتيها مندهشاً ومنبهراً بجماله، وكانت كافيتا الجميلة -وهي تمشط شعرها- تبدو لي أكثر جمالا، وأكثر فتنة.

ولشدة ما افتتنت بحرير شعرها، وبجمالها الآسر، وقعت في أسرها، وكنت  إذا مرّ يومٌ ولم أبصرها تأتي إلى الفرن لشراء الروتي، أو لم تستدعني أمها لخدمتها، أشعر بالملل، وبالضجر، وبالدقائق تمر كالساعات، وأجدني أزعلُ، وأغضبُ، وأتنرفزُ، لأبسط الأسباب، وأتخانقُ مع هذا أو ذاك،  وأختلقُ المشاكل من العدم، وأتحوّلُ إلى طفل متوحش ومشاكس، سيِّئ الأخلاق، وقليل أدب.

وأما بعد أن أبصرتني، والشياطين الخمسة يضربونني، فكنتُ كلما أبصرتها أهربُ من طريقها؛ مثل مجرمٍ يهربُ من طريق الشاهد الوحيد على جريمته.

وفي عصر ذات يوم، وأنا في الشارع حاملا سلة الروتي، فوجئتُ بها تقفُ أمامي، وتقولُ لي إن أمها تسالُ عني، وتريدُ مني أن أمر عليها.

ومع أنني وعدتها بالمجيئ إلا أنني لم أكن أرغبُ في تنفيد وعدي، وكان بي خوف من أن تكون قد كلمت أمها عن حادثة الضرب، لكن الحب كان أقوى من الخوف.

ولشدة رغبتي في رؤيتها وهي تمشّط شعرها، فقد ذهبت ويومها استقبلتني أمها استقبالا غير عادي، واحتفت بي، وقدمت لي صحنا فيه حلوى. وقد بدت لي الحلوى أكثر مرارة من عُشب "المُرّارة"؛ والسبب هو أن كافيتا كانت -لحظة دخلتُ- تمسكُ كتاباً بيدها، فيما كنتُ أتوقّعُ أن أدخل عليها وهي ممسكة بالمشط، وتمشط شعرها. 

ومما خفّف من شعوري بالمرارة هو أن أمها لم تنكأ الجرح، ولم تسألني عن حادثة الضرب، وإنما سألتني عن المدرسة التي أدرس فيها، وبدت سعيدة بخبر دراستي، وبدوتُ في نظرها شخصا جديرا بالاحترام والثقة. 

ومن حينها  كانت عندما تستقبلني في بيتها لا تستقبلني باعتباري "أو الروتي:،  وإنما باعتباري تلميذا في المدرسة وطالب علم.

وكان أن راحت تشجِّعني على الدراسة، وتحثني على المذاكرة، وتسألني عن الصعوبات التي أواجهها في دراستي.

وبعد أن حدثتها عن الصعوبة، التي أجدها في اللغة الإنجليزية، طلبت من كافيتا أن تساعدني، وأبدت كافيتا استعدادها للمساعدة؛ لكني -بدافع الكبريا ء- رفضتُ، وقلت بيني وبين نفسي:

"مستحيل أخلِّي بنت تعلمنا".

كانت كافيتا قد سحرتني بجمالها من أول مرة رأيتها، لكني من حين رأيتها تمشط شعرها صرت أشبه بالمسحور، وكنتُ وأنا في الشارع، في البيت، في الفرن، في أي مكان، وفي أي وقتٍ من النهار أو الليل؛ في اليقظة، أو في المنام، أراها ماثلةً أمامي وهي تمشط شعرها، وأراها حاضرة في كل مكان أذهب إليه، وأكثر حضوراً من كل الحاضرين. 

وفي  المدرسة، عندما كان المدرِّس يدخل الفصل، ويقف أمام السبورة؛ يكتب، أو يشرح الدرس، كنتُ لا أشعرُ به وهو يدخل، ولاحين يخرج، ولا أراه وهو واقف يشرحُ، ولا أسمعه؛ وإنما كنتُ -خلال وجوده في الفصل- أرى كافيتا تمشط شعرها، وكثيرا ما كنتُ أُضبطُ في الفصل من قِبل المدرِّسين متلبساً بشرودي معها: 

- "أنت معي أولا؟".

- معك يا أستاذ. 

- "سمعت ما قلت أولا؟".

- سمعت يا أستاذ.

- "أيش قلت؟".

ولم أكن أدري ما الذي قاله، وكيف لي أن أعرف، وأنا كنتُ مع كافيتا أسمعُ صوت حركة مشطها، وهو يتوغّلُ في غابةِ شعرها، و كثيرا ما تعرضتُ للعقاب والتهزئة أمام الطلاب، وخصوصا من مدرِّس اللغة الإنجليزية. 

كان مدرِّس اللغة الإنجليزية قد لاحظ ضعفي في مادته، مقارنة ببقية الطلاب، وكنت قد أصبحتٰ مادة لتهزئته، وسخريته، ومادة للتنفيس عن غضبه.

وفي ذات يوم، سألني عن معنى "سبورة" بالإنجليزي؟ فوقفتُ مثل اللوح. وسألني عن معنى كلمة أخرى، وثالثة، ورابعة، وخامسة، وسادسة، وسابعة، وأنا مبلود.

ولأني الطالب الوحيد في صف رابع، الذي جاء من خارج المعهد العلمي الإسلامي، فقد سألني عن المدرسة التي درست فيها قبل التحاقي بالمعهد، وقال لي:

"أين كنت تدرس قبل التحاقك بالمعهد؟".

قلت له: في مدرسة "البعث".

ثم سألني، وهو مستغرب من ردي: "أين هذي المدرسة؟". 

- قلت: عندنا بالقرية 

وعندها، جُنّ جنونه من جوابي، وصاح قائلا:

"مدرسة بعث في القرية".

ووجَّه لي صفعة موجعة، وحتى يبرر ذلك أمام الطلبة، قال لهم إننه لا يوجد في قرى ومدن اليمن الشمالي مدرسة  بهذا الاسم، وإنني أكذب.

لكنني، في اليوم نفسه الذي صفعني فيه مدرس اللغة الإنجليزية، تخليتُ عن كبريائي، وذهبت إلى كافيتا لتعلِّمني، وتذاكِر لي؛ غير أني كنتُ أخرجُ من عندها مثلما دخلت، وأعودُ مثلما ذهبت، ولم أستفد شيئا من تعليمها لي؛ والسبب هو أنني كنتُ طوال الوقت مشغولاً بها وليس بالدرس.

كنتُ أنظرُ إلى شعرها لا إلى الكتاب، إلى أصابعها لا إلى الكلمات المكتوبة.

وبدلا من أن أصغي إليها، وهي تنطق الكلمة النطق الصحيح، كنتُ أصغي إلى جمال صوتها، وأتأمل حركة شفتيها وهي تنطقُ.

وفيما كان همها هو أن تشرح وتبسّط لي ما هو صعب، كان كل همي هو البحث عن أسهل الطرق للاقتراب منها، وملامستها، وكنت أشعر برغبة قوية في أن أمسك بالمشط، وأمشط لها شعرها، وأفصح لها عن مشاعري.

 لكني -وقد صارت معلمتي- لم أجرؤ أن أقول لها إن في قلبي الصغير حبا كبيرا لها، ويسع المدينة كلها.

وكنت -من شدة حبي لها- قد أحببتُ عدن، وأحببت أهلها وناسها وبحرها، وأحببت صيفها وحرها الشديد، وحتى أولئك الشياطين الخمسة الذين ضربوني وأوسعوني ضرباً أحببتهم، وأحببتُ السكارى الذين كنت ألقاهم وأتعثر بهم في الصباح، ونحن نجمع قوارير الخمر الفارغة.

وقد بدت لي عدن -بعد وقوعي في حب كافيتا- أشبه ما تكون بالجنة.

مقالات

صراع اللصوص في قصر "معاشيق"

‏ما حدث في اجتماع قصر "معاشيق" لم يكن مواجهةً بين تيارات سياسية، أو صراعاً بين رؤى مختلفة لإدارة الدولة، بل كان معركةً مكشوفةً بين لصوص يتنافسون على نهب المال العام؛ كل مكوّن يحاول تأمين مصالحه، والحفاظ على امتيازاته

مقالات

عاتكة الخزرجي والشعر المكشوف!!

يبقى رمضان شهر المقالات الخفيفة المهضومة، التي تعيدنا إلى الموروث الإبداعي العربي على غرابته بين القرون؛ لأن أهم ما تحققه الطليعة هو اقتياد الرعيل بالقدوة والاهتداء؛ لأن أول الحركات هي من فعل جماعة، وأول الوقود من مستصغر الشرر، أما إذا كانت جمرة فهي ممتدة الاتقاد.

مقالات

أبو الروتي (26)

في اليوم التالي، ذهبت لزيارة كافيتا في شارع الاتحاد، وعند صعودي السلم راح قلبي يخفق بقوة، وكاد يقفز من بين ضلوعي، لحظة أبصرتها أمامي.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.