مقالات

أبو الرُّوتي (12)

11/12/2024, 08:59:13

لم نكن وحدنا، الذين نذهب في الصباح الباكر لجمع قوارير الخَمْر من الساحات ومن أمام المِخمارات والبارات، وإنّما كان هناك آخرون غيرنا يأتون للغرض نفسه، وكانت تحدث بيننا وبينهم خلافات، ومشادّات، ومشاجرات.

وذات صباح، ونحن نجمع القوارير ونضعها في السِّلال وجدنا أنفسنا أمام ثلاثة صعاليك؛ يطلبون منا أن نترك لهم قواريرنا التي جمعناها؛ بحُجة أن المنطقة، التي التقطنا منها القوارير، تابعة لهم، وداخلة ضمن نفوذهم.

قال لهم عامل الفرن منصور: إن القوارير ملكٌ لمن يسبق في الوصول إليها، ورفض أن يستسلم لمنطقهم، ويخضع لابتزازهم.

وعندها هجموا على سلّتَيْنا ليأخذوا بالقوة القوارير التي جمعناها، لكن منصور، الذي كان قد شرب كفايته، شجّ رأس أحدهم بقارورة، وانبجست من رأسه نافورةٌ من الدم  أثارت الرعب في نفوسهم، وعندها لاذوا بالفرار؛ لكنهم ما لبثوا أن عادوا ومعهم البوليس.

وفوق سيارة البوليس، ذهبنا إلى الشُّوكي، وكانت تلك أول مرة أذهب فيها للشُّوكي، واجد نفسي متّهما ومحتجزا بين حشد من المتهمين  والمحتجزين، وكان الاسم شُوكي قد أثار في نفسي سؤالا: "ليش سموه شُوكي؟".

وحين سألت العامل منصور، قال لي: "شُوْكِيْ؛ لأن الناس يجو يشتكو".

وقد بدالي جوابه مقنعا، وكان العامل منصور عندما يشرب يخرج من فمه كلام مقنع، وقد أقنع يومها رجال البوليس بأن الآخرين هم الذين اعتدوا علينا.

وبعد ساعة أو ساعتين من الاحتجاز، قيل لنا إن بمقدورنا المغادرة وعندها خرجنا من الشُّوكي، واتجهنا إلى الساحة، حيث تركنا سلّتينا، لكن أولاد القوارير كانوا قد استولوا على سلتينا وقواريرنا، ويومها عدنا إلى الفرن من دون سلال، ومن دون قوارير.

وأذكر أنه عند وصولنا الفرن كان الحاج يقف عند الباب، ويقف لنا بالمرصاد، وكان زعلانا؛ لأننا عدنا بسلال فارغة، وحين راح يلومنا على عودتنا بدون قوارير، أخبره منصور عن المعركة التي دارت في ساحة القوارير، وعن الدم الذي سال، وعن اقتيادنا إلى الشُّوكي.

بدا الحاج مفزوعًا، وهو يسمع الحكاية، وقال له:
"أنت مجنون تخبط رأسه بالقارورة، وليش؟! وعلى أيش؟! وافرض كان مات!".

قال له الكَرَّاني، الذي كان يكره عامل الفرن منصور ويدس به عند الحاج ويحرِّض ضده:
"كان سكران -يا حاج- سكران".

لكن الحاج لم يصدِّق ما قاله الكَرٍَاني؛ لسبب بسيط، هو أنه كان لديه تصوُّر عن الشخص السكران يناقض الصورة التي ظهر بها عامل الفرن منصور، وكان على يقين من أن منصور لم يضرب الرجل بالقاروة ويسيّل دمه لأنه سكران، وإنما لأن هناك سبباً آخر غير السُّكْر.

وعلى الرغم من أن منصور كان قد شرب الكثير إلا أنه لم يبدُ عليه أنه سكران لا في الشُّوكي أمام البوليس، ولا في الفرن أمام الحاج.

كان هادئا، مبتسما، وكلامه -مع ثقل لسانه- يخرج بطيئا، رزينا، موزونا، ومركّزا تركيز "الإسبرت". لكأنه من أولئك الحكماء الذين يزِنون كلماتهم قبل أن ينطقوا بها، وقبل أن تخرج من أفواههم.

وبعد أن حكى منصور للحاج أن المعركة كانت بالقوارير، ومن أجل القوارير بدا الحاج مستغربا، وغير مصدق من أن هناك معارك تدور من أجل قوارير فارغة. وقال يسأل عامل الفرن منصور:
"هل في ناس غيركم يبكِّروا الصباح يلقّطوا قوارير؟".

قال له منصور، وهو يبتسم:
 "هذي الأيام -ياحاج- القوارير مع الحَمَى لها طلب، ولها سوق، وكلهم يبكّروا يقَوْرِرُوا، ويلقِّطوا قوارير الخمر".

وتفاجأ الحاج حين عرف بأنها قوارير خمر، وصاح محتجاً:
"تلقِّطوا لنا قوارير خمر -يا منصور- مش عيب علوك؟!!".

ولحظتها، أظهر منصور الجانب الآخر من شخصيته، وقال للحاج   بنبرة حادة:
"القوارير اللي نبكر -بعد صلاة الفجر- نلقِّطهن لك -ياحاج- ونغسّلهن بالماء والصابون، ونعبيهن بالماء، ونطرحهن بالثلاجة يبردين لأجل تبيعهن "بانَيْسْ"  قوارير خمر؛ خينا مش أنت داري؟!!".

وقال الحاج، وهو غير مصدق:
"من صدق -يا منصور- والا تمزح؟!!".

قال له منصور بالنبرة الحادة نفسها:
"من صدق -يا حاج- قوارير خمر نلقطهن لك من قُدّام المخمارات والبارات، ونرجع ونحنا نجِسِين وشمّنا خمر، وكل اللي يشمّونا يتهمونا بشرب الخمر!!".

قال الحاج:
"وليش ما تلقِّطوا قوارير غير قوارير الخمر؟".

رد عليه منصور، وهو محتفظ بابتسامته، التي لم تكن تفارقه عندما يشرب:
"ما فيش -يا حاج- غير قوارير الخمر، من اين نجيب لك قوارير غيرهن؟!!".

ولحظتها ساور الحاج شعور بالذنب؛ كونه يبيع البانيس (الماء البارد) بقوارير الخمرة، حتى لقد توقعتُ يومها من أنه سوف يعفينا من مهمة الذهاب لجمع القوارير؛ لكن الطمع تغلّب على شعوره بالذنب.

مقالات

كيف عزز النصر السوري حضور تركيا

في السنوات الأخيرة، عززت تركيا حضورها كقوة إقليمية تسعى إلى لعب دور محوري في إعادة تشكيل التوازنات السياسية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وآسيا الوسطى.

مقالات

هل أصبح الحوثيون حقاً في دائرة الاستهداف؟

أكثر من مجرد الرّعب والفزع اللذين أحدثتهما الغارات الأمريكية على صنعاء، مساء السبت الماضي، فلا شيء يُذكر يمكن أن يؤثر على قدرة "جماعة الحوثيين"، وعلى استمرارها في استهداف إسرائيل، حتى ولو لمجرد المشاغبة عبر إطلاق مسيِّرةٍ هنا أو إسقاط صاروخ هناك على أرضٍ "فارغةٍ"، وكلُّها وسائل لا تقدِّم أو تؤخر شيئاً.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.