مقالات

أبو الروتي (17)

07/01/2025, 16:58:13

في اليوم التالي، حين عرف الكراني أنني نمت في بيت كافيتا، كلَّم الحاج، وراح يحرِّضه ضدي، وسألني الحاج، وقال لي:
"أين نمت أمس يا عبد الكريم؟".

قلت له: "نمت في بيت أم كافيتا".

وعندئذٍ جحضت عيناه من الذهول، وقال لي: "ما ودَّاك بيت الهنود، وقت حظر التجول؟!!".
 
ولم أقل له إنني أوصلت الروتي، وإنما قلت له:  "كافيتا تذاكر لي إنجليزي".

قال الكرَّاني متهكما: "تذاكر لك الإنجليزي، والا قدك عاشق ونحنا مش داريين".

وقال مخاطبا الحاج: "أب كافيتا -يا حاج- جاسوس مع الإنجليز، لكنه هذي الأيام هارب، وخايف لا يقتلوه، وله شهور الله أعلم أين هو مُتْخَبِّي".

وصاح الحاج، وقد تفاجأ بكلام الكرَّاني، وقال له: "جاسوس، كيف عرفت أنه جاسوس؟!".

قال الكرَّاني:
"الهنود كلهم جواسيس -يا حاج- لأنهم يعبدوا البقر".
 
وعندها، اعترضتُ على كلامه، وقلت له: إن أسرة كافيتا أسرة مسلمة؛ يعبدون الله، ولا يعبدون البقر.
وعندما قلت ذلك زعل الكراني  

وقال للحاج:
"الجواسيس -يا حاج- يعبدوا البقر، وزوج أم البنت كافيتا أكيد يعبد البقر، ولو هو مسلم مش ممكن يكون جاسوس".
 
قال ذلك، وراح يحرِّض الحاج ضدي، ويقول له:
"لو الثوَّار -يا حاج- يشوفوا عبد الكريم وهو داخل خارج من بيت الجاسوس الهندي بانروح كلنا في ستين داهية".

قال له ذلك وراح يذكِّره بالجاسوس الهندي، الذي قتله الثوَّار في سوق الطويل.

وعندئذ ارتعب الحاج، وقال لي:
"من اليوم ممنوع تدخل بيت الهنود".  

ولشدة ما كنت زعلانا، رحت يومها أهيم في الشوارع من دون هدف أو اتجاه، ومررت على بائع "السُّمْبُرَة"، وكان معه عربية لصق مقهى "زكُّو"؛ تلك التي حذّرنا "شُبَاطَة" من دخولها؛ بحُجة أنها مأوى للشواذ واللَّوَطَة.

 وبعد أن أكلتُ "السُّمُبُرَة"، مررتُ على كشك بائع الليمون والزنجبيل، في ركن "سوق الطويل"، وشربت واحد زنجبيل، ثم دلفت إلى الشارع المؤدي إلى "حافة حسين "، وهناك التقيت بالولد "سيف عبده محمد"؛ وكان طالبا ذكيا أكبر مني، ومتقدما عليَّ في السن، وفي الدراسة، لكنه سافر إلى عدن قبلي، وكانت تلك أول مرة أبصره منذ وصولي مدينة عدن، وقد فرحت به وفرح بي، وراح يسألني أين أقيم؟ وفي أي مدرسة أدرس؟

وبعد أن أنهى أسئلته، سألته وقلت له:
"هل دخلت السينما -يا سيف؟".

وكان أن تفاجأ بسؤالي، وقال لي: "مُوْنَا أهبل أدخل السينما!!".

قلت له، وقد استفزني جوابه: "اللي ما يدخل السينما أهبل".

قال، وهو مستغرب من ردي:
"خَيْنَا دخلت!!".

وبعد أن اعترفت له بأني دخلت السينما؛ قال لي إن الدراسة أهم من الصعلكة، ومن دخول السينما. وراح يلومني ويوبِّخني لدخولي السينما، ثم راح يخبرني بفخر عن رسالة أرسلها إلى الرئيس جمال عبد الناصر، وأراني رد جمال عبد الناصر على رسالته. وقال إنه سوف يذهب إلى مصر في منحة دراسية، وسوف يدرس هناك على حساب مصر.

وكان فعلا قد كتب رسالة لجمال عبد الناصر، وأتاه الرد، ولم يكن يكذب، وأما قوله إن جمال عبد الناصر قدَّم له منحه دراسية فكان من وحي خياله، لكني يومها صدقته وحسدته. وقلت بيني وبين نفسي:
"وانا شَكْتُب رسالة لجمال عبد الناصر، ولو جاب لي منحة أروح مصر أسيْنِمْ".

كنت قد سمعت من أحد عشاق السينما أن في مصر دُور سينما اكثر من عدد المدارس والمساجد، وأن الكل في مصر  يذهبون إلى السينما (الرجال والنساء والأطفال) ولا أحد يمنعهم من دخولها، أو يقول لهم إن السينما حرام أو عيب.

وفي اليوم نفسه، الذي التقيت فيه بابن قريتي "سيف عبده محمد"، كتبت رسالة للرئيس جمال عبد الناصر، ووضعتها في ظرف، وكتبت العنوان: "القاهرة - القصر الجمهوري بالقبة"، وكنت قد أخذت العنوان منه.

وفي الصباح ذهبت إلى البريد، وأرسلتها. وبعد أسبوع، أو ربما أسبوعين، لم أعد أذكر، وصلني ظرف كبير، وداخل الظرف كتاب "فلسفة الثورة"، وكتاب آخر عن "غزة"- لم أعد أذكر عنوانه، وداخل الظرف رسالة جوابية على رسالتي بتوقيع سامي شرف مدير مكتب جمال عبد الناصر.

ومن شدة فرحي يومها، رحت أجري هنا وهناك، وأخبر كل من أصادفه في طريقي بخبر الرسالة التي وصلتني من الرئيس جمال عبد الناصر، وأريه الكتابين.

وأول ما ذهبت، ذهبت إلى بيت كافيتا أبشِّرها بأن الرئيس جمال عبد الناصر كتب لي رسالة، وأرسل لي بكتابين، لكن كافيتا بدت زعلانة مني، والسبب أنني بعد أن منعني الحاج من دخول بيتها توقفت عن زيارتها، حتى إنها لم تظهر فرحتها بزيارتي، ولم تمسك بالمشط، وتمشط شعرها، كما كانت تفعل عند حضوري، ثم إنها لم تكن تدري من هو جمال عبد الناصر هذا الذي أنا فرح برسالته..

وأما أمها فقد تفاجأت بمقدرتي على التراسل والتواصل مع زعيم له صيت وشهرة، وبدت فرحة لفرحي، وقالت لي:  
"جمال عبد الناصر صاحب رئيسنا نهرو".

ولم أكن أعرف من هو نهرو هذا الذي تتكلم عنه أم كافيتا، وحين سألتها من يكون؟
 قالت إنه رئيس الهند، وطلبت مني أن أساعد ابنتها كافيتا في أن تكتب رسالة للرئيس جمال.
لكن كافيتا، التي كانت زعلانة مني، سألتني عن معنى رئيس باللغة الإنجليزية؟
ولا أدري ما الذي جعلها تسألني ذلك السؤال الصعب، أمام أمها؟ وهل أرادت بذلك أن تفسد فرحتي أم أنها أرادت أن ترد على أمها التي طلبت مني أن أساعد ها في كتابة الرسالة.

وعندما أبديت استعدادي في مساعدتها، قالت لي كلاما بالإنجليزية لم أفهمه. وعندما سألتها عن معنى كلامها؟ قالت إنها ستكتب رسالتين واحدة للرئيس جمال وأخرى للرئيس نهرو، وأنها ستكتب الرسالتين باللغة الإنجليزية.

قالت ذلك لتثبت لأمها، التي فرحت لأجلي، بأنها أفضل مني، وأنها قادرة أن تتراسل مع الزعيمين باللغة الإنجليزية، التي هي أرقى وأعلى مرتبة من اللغة العربية.

وعندما سألتها عن معنى رئيس بالإنجليزية؟ لاذت بالصمت، ولم تقل لي. وعندها زعلت، وخرجت وأنا زعلان منها؛ لكونها لم تفرح لفرحي، مع أني بقوة حبي لها كسرت الحظر الذي فرضه الحاج عليَّ تماما مثلما كنت أكسر حظر التجول الذي فرضه البريطانيون على سكان المدينة.

ومن بيت كافيتا، ذهبت إلى بيت الحاج، ورحت أبشر كل من في البيت بالرسالة التي وصلتني من الرئيس جمال عبد الناصر، وبالكتابين، لكن ابن الحاج المدلل (أمين)، الذي كان أكبر مني ويكرهني بسبب تمردي على سلطته، ورفضي الخضوع له وتنفيذ مطالبه، شعر بالغيرة مني، وكان على وشك أن يخطف الرسالة من يدي ويمزِّقها، لكني فررت من أمامه، ونزلت السُّلم أجري.

وحين دلفت إلى الفرن، وأخبرت العمال بالرسالة، فرحوا، وبدوا مذهولين ومندهشين من قدرتي على التواصل مع الرئيس جمال عبد الناصر، وكان عامل الفرن منصور أكثرهم فرحا.

وأما الكرَّاني، فقد ازدادت كراهيته لي، وقال لعمَّال الفرن، الذين فرحوا لفرحي:
"يكذب عليكم، وتصدقوه".

وقال لهم إن الرئيس جمال عبد الناصر ليس فاضيا وبلا عمل حتى ينشغل بالرد على رسالة "جربوع مثلي".

وكان هناك رجل متعلم من أبناء عدن حضر لشراء الروتي، وبمجرد أن سمع الحديث عن الرسالة طلب مني أن أريها له، وبعد أن قرأها قال للكرَّاني:
"الولد ما يكذبش، الرسالة من مكتب جمال عبد الناصر".

وكان كلامه قد أخرس الكرَّاني، لكن الكرَّاني بعد رسالة جمال عبد الناصر ازداد حقدًا عليَّ، وراح يكلِّفني بالقيام بأعمال إضافية. وكان ما ينفك يضيف لي عملا فوق العمل، وعندما احتج أو أعترض يقول لي:
"إذا ما تشتي تشتغل ليش جالس ببيت الحاج، اسرح بيت جدك علي إسماعيل".

وكنت أطأطئ رأسي، وأقوم بالعمل الذي يطلبه مني، لكنه في أيام الامتحانات كان ما ينفك يصرخ قائلا:
"اين المُسَيْنِم؟ ادعوا للمُسَيْنِم يجي؟".
 
وعند ما يقولون له: "يذاكر، عنده امتحانات".

يقول لهم: "قولوا له ينزل مش وقت المذاكرة".

وبعد الامتحان، وقد ذهبت لمعرفة النتيجة، واستلام الشهادة، تفاجأتُ بأنني راسب في صف رابع ابتدائي، وبدلا من العودة إلى البيت اتجهت يومها إلى ساحل صيرة، ورحت أمزق الشهادة، وأرميها  في البحر.

* سيف عبده محمد درس الطب في جمهورية المجر، وبعد تخرجه بقي في المجر، وتزوج مجرية، وظل هناك يشتغل، وبعد الوحدة اليمنية والتعددية الحزبية رجع إلى اليمن واشتغل في مستشفى الثورة بصنعاء، لكنه ما لبث أن ضاق باليمن وبالحرب وبالصراعات الحزبية، وعاد إلى المجر، وبقي هناك إلى أن مات.

مقالات

حفلة مكافحة الفساد

إذا كانت تقارير الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة الأخيرة قد فضحت شيئا، فإن ذلك الشيء المهم هو أن الفساد أكبر وأفدح من هذه القصاصات، وأن إرادة مكافحته رهن حسابات خاصة.

مقالات

اليمن.. الراتب كمعضلةٍ للاستقرار!

بينما تتباهى دولٌ كثيرةٌ في العالم بارتفاع مستوى الدخل السنوي لسكانها، كان ولا يزال مفهوم "الراتب" عند أغلب اليمنيين من سكان المدن، الذين لا أرض زراعية تجود عليهم بما يقتاتونه في معيشتهم، هو ذلك الأجر الزهيد الذي يتقاضاه اليمني

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.