مقالات
أزمة العرب وأدوات السلطة والتشريع.. قراءة في الجذور
لا تزال أدوات الحُكم والتشريع في البلاد العربية خاضعة لمنطق السيطرة السياسية، وليس المشاركة الشعبية، إذْ أن غالبية الأنظمة القائمة لم تصل إلى الحكم عبر آليات ديمقراطية حقيقية، ولا مزيّفة، ولا تمارس سلطتها من خلال مؤسسات ديمقراطية مكتملة، وحتى حين تتوفر بعض النوايا الإيجابية لدى بعض الحُكام تجاه شعوبهم، فإن الأدوات التي يستندون إليها لا تقود إلى حُكم جيّد أو مستدام، بقدر ما تقود إلى محاولات فردية معزولة، كانت لتكون أنجح وأكثر تأثيرا لو أنها استمدت مشروعيتها من مبادئ الديمقراطية، واستندت إلى التماس فعلي لحاجات الشعوب، لا إلى فرض رؤى فوقية لما يفترض أنه "تطوّر"، لا ينسجم مع طبيعة التحوّل التاريخي للبشرية، ولا مع منطق الحرية وتنوّع التعبير.
إذا تأملنا بُنية التشريعات القائمة في بلداننا، فسنجد، من وجهة نظري، أنها تستمد مصادرها من مزيج متنوِّع من المرجعيات والمدارس: أقدمها الفقه الإسلامي بمذاهبه المتعددة، ثم جاءت القوانين الفرنسية التي انتشرت في العالم العربي في ظل الحقبة الاستعمارية، ولاحقا ظهرت محاولات تقنين أحكام الشريعة ضمن قوالب قانونية حديثة.
كل هذه المصادر، رغم اختلافها، بقيت تُدار غالبا بعقلية فوقية تقصي المشاركة المجتمعية، ولا تؤمن بسيادة الشعب كمصدر للشرعية، وهو ما يبرر الحاجة إلى إعادة التفكير في منطلقات التشريع وأدواته بمرجعية ديمقراطية ومواكبة.
في هذا السياق، يمكن القول إن المذاهب الفقهية، رغم مكانتها التاريخية، تمثل أقدم هذه المرجعيات وأكثرها رسوخا في أذهان الفاعلين القانونيين، إذْ ما تزال تعامل كما لو أنها أنظمة تشريعية حيّة، قادرة على تنظيم شؤون الحياة المدنية والعلاقات القانونية، رغم أنها نشأت قبل قرون في سياقات اجتماعية وسياسية وثقافية مختلفة كليا.
ورغم الاحترام الكبير الذي تستحقه هذه المذاهب بوصفها إنجازا فكريا اجتهاديا في زمن غياب الدّولة القانونية، فإن مواصلة الاعتماد عليها كمصدر مباشر للتقنين الحديث يمثل إشكالا متناميا من حيث العدالة، والمرونة، ومواكبة التحوّلات.
لم تكن المذاهب الفقهية في أصلها سوى أدوات اجتهادية، هدفها التيسير على الناس، وتأطير العلاقة بين النصوص الشرعية وواقعهم المتغيّر، وقد نجحت في ذلك داخل بيئاتها الاجتماعية الضيِّقة، حين كانت الدّولة ضعيفة، والمؤسسات شبه غائبة، والحُكم موزعا بين الخليفة والحاكم والقاضي والفقيه، لكنها لم تنشأ بوصفها أنظمة قانونية جامدة أو أطرا تشريعية دائمة، بل بوصفها محاولات بشرية، تحتمل الصواب والخطأ، وتخضع للمراجعة والنَّقد.
بالرّغم من المآخذ الواسعة التي يمكن توجيهها إلى استمرار الاعتماد على المرجعية المذهبية في التشريع، فقد شهد العالم العربي - الاسلامي بعض المحاولات الجادة للخروج من هذا الإطار، كان أبرزها ما قامت به الدّولة العثمانية في القرن التاسع عشر، حين أصدرت "مجلة الأحكام العدلية" (1869–1876)، التي حاولت تقديم أحكام الفقه الحنفي في صورة قانونية منظمة، تكتب بلغة الدّولة وتطبَّق من خلال المحاكم. كانت هذه المجلة محاولة مبكِّرة لفهم الشريعة ضمن إطار الدّولة الحديثة، لكنها بقيت حبيسة المذهب الحنفي، ولم تتح لها فرصة التطوّر والانفتاح على باقي المذاهب، أو على المقاصد العامة للشريعة.
في السياق ذاته، برزت التجربة اليمنية، التي تمثلت في إنشاء لجنة برلمانية دائمة باسم "لجنة تقنين أحكام الشريعة الإسلامية"، لتتولى إعداد مشاريع القوانين المستمدة من الشريعة.
وقد نجحت اللجنة في تقنين العديد من أبواب الفقه، لا سيما في مجال الأحوال الشخصية، والمعاملات، والعقوبات.
ورغم هذا الجهد المؤسسي المُهم، إلا أن تقنين الشريعة ظل مرتهنا لرأي فقهي بعينه، وليس لمقاربة قانونية مرنة تُعلي المصلحة والعدالة، وهو ما جعل الكثير من القوانين اليمنية تتعثر عند نقاط التنازع بين المذاهب، أو تُصاغ بطريقة غير منسجمة مع مبادئ الدستور والدّولة الحديثة. ومع ذلك، أرى أن هذه التجربة كانت رائعة في جوهرها، ويمكن تجويدها والبناء عليها من خلال مؤسسات ديمقراطية حقيقية تنفتح على الاجتهاد المقاصدي، وتستفيد من روح العصر.
على الضفة السياسية من المشهد اليمني، لا يمكن، في تقديري، إغفال خطورة بقاء المذاهب كأدوات سلطة، وهو ما تجلى بشكل صارخ فيما حدث ويحدث في اليمن.
فالنظام الإمامي، الذي نازع على حكم اليمن خلال القرون الماضية، كان قائما على المذهب الزيدي (الهادوي)، ليس فقط بوصفه مرجعية فقهية، بل كنظرية سياسية دينية تشرعن الحُكم الفردي الوراثي، وتحتكر الحق في السلطة، وتقصي من يخالفها مذهبيا أو فكريا. وكانت الجمهورية عند ولادتها نقيضا مباشرا لهذا النظام، ورفعت شعار التحرر من سلطة "الإمام"، لا بوصفه شخصا فحسب، بل كمفهوم ديني سياسي يُصادر حق الأمة في حُكم نفسها.
كان المنتظر أن تؤدي الجمهورية، ومعها الدّولة الحديثة، إلى تجاوز هذا النموذج المذهبي السياسي، وإحالته إلى التاريخ، بوصفه مرحلة منتهية.
لكن ما جرى، في اعتقادي، هو العكس: لم يحصل حوار وطني جاد مع الماضي، ولم تعالج رواسب المذهب الزيدي السياسي بالوعي والتفكيك والمكاشفة، بل تركت كامنة في الخطاب والمناهج والوظائف والذاكرة. والنتيجة أن الكثيرين وجدوا أنفسهم، دون وعي، يعودون إلى الانقياد وراء النسخة الجديدة من الإمامة، بكل أدواتها القديمة: التمييز المذهبي، والاستعلاء الدِّيني، واحتكار الحق، وشرعنة الاستبداد.
وهكذا، بدلا من أن يتحوّل المذهب الزيدي إلى جزء من التاريخ الفقهي اليمني، عاد اليوم - في شكله السياسي - ليغذي الحرب، ويستدعي السلالة، ويُؤسس للفرز الاجتماعي والطائفي، تماما كما كان يفعل في صيغته التقليدية.
إن ما يحدث في اليمن مثال حي على أن عدم التعامل النقدي الصحي مع الإرث المذهبي السياسي يمهّد الطريق لعودته أكثر عنفا وسطوة.
الأخطر من الجمود، هو حين تتحوّل بعض المذاهب إلى واجهات سياسية أكثر منها مدارس فقهية؛ فبعض الجماعات المعاصرة تظهر نفسها كمدارس فقهية مستقلة، لكنها في الواقع كيانات سياسية مذهبية هجينة، تبني رؤيتها القانونية على مزيج انتقائي من آراء عقائدية وفقهية مستعارة من مذاهب أخرى، وتعيد توظيفها لخدمة مشروعها السياسي. هذا النوع من "الفقه السياسي" لا ينتمي إلى تقاليد الاجتهاد العلمي، بل إلى منطق الغلبة والتأصيل الانتقائي، وهو ما يحوّل الفقه من أداة عدل إلى سلاح أيديولوجي.
إن الاستمرار في الاعتماد على الفقه المذهبي في التقنين الحديث أدى إلى أضرار ملموسة في الواقع القانوني والاجتماعي. فمثلا، تبرير زواج القاصرات بناءً على اجتهادات مذهبية قديمة لا يأخذ في الحسبان ضرر الفتاة، ولا تطور مفهوم الطفولة، أدى إلى مشكلات نفسية واجتماعية واسعة النطاق.
كذلك، فإن وقوع الطلاق لمجرد التلفظ به، ولو كان مازحا أو تحت تأثير الغضب أو الكحول، يمثل مأساة إنسانية لا تقل فداحة، وتحتسب فيه كلمة واحدة كافية لهدم أسرة كاملة، وفي مسائل الشهادة والدية والميراث، ما تزال بعض القوانين المحلية تطبِّق آراء مذهبية تميِّز ضد المرأة أو غير المسلم، متجاهلة مبدأ المساواة أمام القانون الذي نصّت عليه دساتير الدِّول ذاتها.
البديل، في رأيي، ليس في القطيعة مع الشريعة، بل في العودة إلى مقاصدها الكبرى: العدل، والرحمة، والمصلحة، ورفع الحرج. هذه المقاصد يمكن أن تُترجم إلى قوانين حديثة من خلال أدوات الاجتهاد الجماعي، والتقنين المؤسسي، والاستناد إلى الخبرات الحقوقية الحديثة، دون الحاجة إلى العودة الدائمة لآراء فقهاء عاشوا في ظل الخلافة العباسية أو العثمانية.
لقد آن الأوان، كما أعتقد، لفصل المذاهب عن التشريع المعاصر، وإعادة تصنيفها ضمن ما يجب أن تكون عليه: جزءا من التاريخ القانوني الإسلامي، لا من النصوص القانونية الملزمة.
إن كل ما استعرضته من نقد للبنى الفقهية التقليدية، ومن تحليل لتجارب الديمقراطية وتحدِّياتها في البيئة العربية، لا يهدف إلى التوصيف فقط، بل إلى صياغة مشروع تحوّل واقعي، يتجاوز الخطاب إلى الفعل، وينتقل من الفردي إلى الجماعي، ومن اللحظة إلى المسار.
ولهذا، أرى في "وثيقة العهد الديمقراطي العربي - سراييفو 2024" تعبيرا ناضجا عن هذا الاتجاه، ومحاولة جادة لبناء رؤية عربية ديمقراطية موحّدة، تلخِّص الدروس المستفادة من الثورات العربية، وتطرح مشروعا متكاملا للتحرر من الاستبداد، وتحقيق السيادة والمواطنة والعدالة الاجتماعية، دون تبعية، ودون اغتراب عن الهوية.
الوثيقة تعيد تعريف الديمقراطية في السياق العربي، لا كمجرد آلية حكم، بل كعملية تحرر ممتدة، تربط بين مقاومة الاستبداد الداخلي، ومواجهة التبعية الخارجية، وبناء اتحاد شعوب حُرة قادرة على حماية نفسها، وإنصاف قضاياها، وفي مقدِّمتها القضية الفلسطينية. وهي، بذلك، تمنح هذا المقال خلاصته العملية: الانتقال من نقد الموروث، إلى بناء المستقبل.
وأؤمن شخصيا أن هذه الوثيقة يجب ألا تبقى مجرد إعلان نخبوي، بل أن تتحوّل إلى مرجعية سياسية وأخلاقية لكل من يسعى إلى مستقبل عربي ديمقراطي وإنساني. صحيح، هي ليست وصفة نهائية، لكنها قاعدة مشتركة يمكن البناء عليها وتطويرها وتفعيلها في البرامج التعليمية، والخطط الحزبية، والنقابات، والمنتديات الثقافية. أرى فيها صوتا جامعا يمكن أن يستعيد المعنى الحقيقي للسياسة؛ خدمة الإنسان، لا التحكَّم فيه.