مقالات
الأغنية الوطنية في موكب ثورة 14 أكتوبر
تولَّدتْ الأغنية الوطنية في اليمن في خضمّ غليان سياسي ظهرت فيه فكرة المقاومة الوطنية ضد المحتل البريطاني في جنوب اليمن، وما كانت تقوم بها القوى الوطنية في الشمال من محاولات للتخلّص من نير كهنوتية الحكم الإمامي.
وقد برزت الأغنية الوطنية بشكلٍ كبير في تلازم واضح مع الثورتين المجيدتين (26 سبتمبر 1962 و14 أكتوبر 1963)، فقد كان المد الثوري يقتضي تجذير الفجر الجديد في نفوس الشعب، وتعزيز الروح الوطنية والنضالية، والتعريف بأهداف الثورة ومبادئها، ولم يكن في تلك الفترة من وسائل إعلامية سوى الأغاني والمذياع.
مثَّلت مدينة عدن مهد هذا التحول والتطور في المجال الموسيقي؛ لأنها كانت منفتحة على العالم، فامتد إليها التأثير الموسيقي، وبالأخص من جمهورية مصر العربية، على عكس صنعاء التي ظلت تعاني لعقود من الزمن العُزلة التي فرضتها الإمامة.
لقد شكّل انبلاج فجر سبتمبر 1962 مرحلة تحوّل مهمّة على مختلف الأصعدة، وعلى صعيد الموسيقى والغناء بشكل مباشر، فالساحة الفنية في شمال الوطن شهدت ميلاد عشرات الأعمال الموسيقية الجديدة والمغايرة التي تظهر أنها نتيجة جهد كبير وعمل متقن في التلحين والتوزيع الموسيقي، الذي يقوم على تعدد الآلات ودخول الكورس، ولذلك يمكن القول إن الموسيقى بعد ثورة 26 سبتمبر -في شمال الوطن- اكتسبت طابعا جديدا وحديثا.
أما في عدن، ونتيجة لعوامل كثيرة، ظهر النشاط الموسيقي في مرحلة سابقة لثورة 14 أكتوبر المجيدة، فقد شهدت المدينة تكوّن روابط وندوات موسيقية، وأنشطة فنية منظمة، وذلك بفعل انفتاح هذه المدينة على الفنون الإبداعية، وما توافر فيها من عوامل جعلت منها مدينة حاضنة للكثير من الأسماء الفنية من مختلف مناطق اليمن.
الأغاني الوطنية، التي واكبت ثورة 14 أكتوبر المجيدة، كثيرة، منها أغاني محمد مرشد ناجي، ومحمد محسن عطروش، ومحمد سعد عبدالله، وأحمد قاسم، ومحمد عبده زيدي، وغيرهم، ويُلاحظ أن هذه الأغاني أتت بطابع موسيقي جديد ومغاير، يعبِّر عن مرحلة جديدة في الواقع السياسي؛ هي مرحلة الثورة ضد المستعمر، فعملوا على تحديث الأغنية في شكلها ومضمونها.
ويمكن أن نلاحظ ذلك في عمل فني كأغنية "أخي كبلوني" للمرشدي، فالنص الغنائي يقوم على تجسيد العلاقة بين المواطن والمستعمر في لغة انفعالية تصوّر مقدار القمع والتسلّط الذي يلحق بأبناء الوطن التواقين إلى الحرية.
ويأتي لحن الفنان المرشدي وأداؤه مجسدين لروح النص، إذ يبدأ الأداء بشيء من الهمس والهدوء، وهو ينشد:
"أخي كبلوني
وغُلّ لسانيا
واتهموني:
بأني تعاليت في عفتي
ووزعت روحي على تربتي"
يقوي ويعلو صوت المرشدي أكثر وهو يجسد الروح الرافضة للقمع والظلم، معبّرا عن روح الكلمة ومضمونها:
"ستخنق أنفاسهم قبضتي
لأني أقدس حريتي".
وهكذا يحتشد التعبير في أداء فناننا الكبير محمد مرشد ناجي في كل مقاطع هذه الأغنية الوطنية الثورية، ويتكثّف التعبير ويزداد حضورا يتسم بالقوة والصرامة في المقطع التالي:
"بحق الوطن
بهذا القسم
أخي قد نذرت الكفاح العنيد لهذا الوطن
إلى أن أرى إخوتي في السجون، وهم طلقاء
يقولون ما مات حتى انتقم!".
ويأتي صوت الفنان محمد محسن عطروش قويا ومزمجرا: "برع يا استعمار من أرض الأحرار"، بلحن يبعث على الحماس والقوة في مواجهة المستعمر، ويتجاوب معه صوت الفنان يوسف أحمد سالم "أكتوبر يا عيد الثورة حطمنا فيك الأسطورة".
والمتأمل في هذه الأعمال الغنائية وغيرها سيجدها مشتغلا عليها موسيقا إلى حد كبير من حيث التوزيع الموسيقي ودخول الآلات المصاحبة والكورس، بما يعزز من قوة وفاعلية التأثير في المتلقي وهو ما يقتضيه هذا الحدث الكبير (ثورة الرابع عشر من أكتوبر 1963).
ومن الأغاني التي تجسِّد صدق النضال في وجه المستعمر البريطاني أغنية "انتفضنا" للفنان أحمد بن أحمد قاسم، ومنها:
"اللي قال ما كنش كاذب
لما قال إن الأجانب:
فرقوا ما بيننا
نهبوا خيراتنا
كان مقدر إننا
يحكمونا الآخرون
إنما كل الحكاية مش كذا
والنضال ما كنش ضائع أو سدا
كان معانا الشعب في أرض المعارك
كان معانا الله ينصرنا يبارك
يا ما راحوا منا أكثر من عزيز
وانتهى الماضي وراح الانجليز
وانتصرنا وابتدينا بعد ذا نبني الوطن".
ولعل أبرز الأناشيد الوطنية التي تغنت بثورة الرابع عشر من أكتوبر، وأشارت إلى عظمة هذا اليوم، أغنية الفنان يوسف أحمد سالم "الله الله يا أكتوبر"، للشاعر الكبير/ عبد الله عبد الكريم محمد؛ شاعر الروائع الغنائية التي شدا بها عدد كبير من المطربين. وهذه الأغنية من أكثر الأغاني حضورا في هذه المناسبة الوطنية؛ لبساطة كلماتها وصدقها، وخفة لحنها، ما يجعلها تعلق في ذهن المستمع من الوهلة الأولى:
الله الله يا أكتوبر
الله على نورك ببلدنا
الفرحة بقدومك تكبر
يا أحلى وأجمل أعيدنا
أكتوبر يا عيد الثورة
حطمنا فيك الأسطورة
وهتفنا لما تحررنا لما تحررنا
يا سلام على نورك ببلدنا"
كثيرة هي الأغاني التي واكبت ثورة الرابع عشر من أكتوبر، وظلت هذه الثورة ملهمة للكثير من الشعراء والمطربين، وفي كل ذكرى سنوية كان يكتب لهذه المناسبة القصائد ويتلقاها الفنانون ليحيلوها إلى أغانٍ خالدة..
اليوم نعيش على تلك الأغاني الوطنية الخالدة، ونستحضرها مرارا، ولم نشهد ظهور أعمال جديدة ترقى إلى مستوى تلك الأعمال، رغم وجود الأصوات الشابة الواعدة، إلا أن إنتاج أعمال غنائية بمستوى تلك الأعمال بحاجة إلى مناخ فني يسوده وجود الإمكانات اللازمة، والروح التواقة إلى تقديم الجديد والأفضل، وكذلك وجود الفِرق الموسيقية المؤهّلة، ودعم وتشجيع المقدمين على إنتاج أعمال غنائية وطنية.