مقالات
ما العمل؟
عندما قرأ مقالي «ماذا ننتظر كيمنيين؟»، عَقَّبَ الأستاذ المفكر الإسلامي زيد بن علي الوزير بسؤال: «ما الحل؟»، و«ما المخرج؟»؛ وهو «سؤال العارف». وقد وردَ في الأثر: "ما المسئول بِأعلمَ مِنْ السائل".
في أربعينات القرن، وفي غمرة التحضير للثورة الصينية، طَرحَ الزعيم ماوتسي تونج على نفسه وحزبه وشعبه سؤال «ما العمل؟»، وطرحَ المفكر القومي قسطنطين زريق على شعبه وأمته العربية السؤالَ نفسه: «ما العمل؟».
ردَّ الحزبُ الشيوعي الصيني والشعب الصيني على سؤال ماوتسي تونج بالإجابة الصائبة، إلا أنَّ إجاباتِ الحكم العربي باءت بالإخفاق والخيبة!
الآن، وبعد نصف قرن على سؤال المفكر القومي قسطنطين زريق، نجدُ أنفسَنا نعيدُ السؤالَ نفسه: «ما العمل؟». فهو عندما طرحَ سؤاله، في نهايات القرن الماضي، كنُاَّ لا نزال «ثورات تحرر وطني»، ومشروع «أمة عربية واحدة».
وها نحنُ نطرحُ السؤالَ مجددًّا، وقد صِرنَا قبائلَ، وعشائرَ، وأُسَرَ، وطوائفَ، ومناطقَ، وكياناتٍ متناحرة تتسابق على التطبيع، وتدمير شعوبها، وتتنكر لأمتها، وتعطي الولاء المطلق لأعداء الأمة. نطرح السؤال على أنفسنا كيمنيين في الوقت الذي أصبحت اليمن «يمنات»، أو بشكل أكثر دِقَّة عِدَّة كياناتٍ تحكمها مليشيات متغلبة لا رابط بينها وبين الشعب إلا امتشاق السلاح، والحكم بالغلبة والقوة.
لكأننا نتوجّه بالسؤال لـ«ضمير غائب»؛ فالأحزاب السياسية غابت عن العمل، وتوزّعت على خارطة الحرب، ومؤسسات المجتمع المدني مصادرة ومحروبة، والمئات في المعتقلات؛ غير المخفيين قسرًا، ومَنْ تَمَّتْ محاكمتهم بشكل جائر؛ وهم ليسوا بالقليل. في الحقيقة السؤال لغير الله مذلَّة.
وقد بلغت المذلة والهوان أننا نطرح السؤال، ونتلمّس الحل من صُنَّاع الكارثة؛ المتحاربين على رؤوسنا، والمصادرين حرياتنا؛ مُهِيني الكرامة، ونازِعي الخبز من أفواه الجياع.
نجدُ أنفُسَنا أمام مِحنةٍ مُركَّبة ومُعقَّدة؛ بحيث أنَّا مضطرون لدعوة هؤلاء المتحاربين بنا وعلينا أن يوقفوا حربهم، وأن يتصالحوا، ويحققوا قدرًا من التوافق يتيح للشعب أنْ يستعيد قدرًا من التعافي والتعايش، ونتصالح مع أنفسنا ومجتمعنا، ونعيد بناءَ حياتنا بعد أن تمزّقنا «شَذرَ مَذر»، ودُمِّرت بنيتنا التحتية بحرب «الإخوة الأعداء»، والجوار والمحيط الإقليمي والرُّباعية الدولية.
سؤال الحل والمخرج من قاع الكارثة لا بُدَّ وأنْ يكون بَسْمَلَتَنا، وفاتحةَ صباحِنا ومسائِنا؛ على أنْ نعملَ جميعًا للإجابة بالسعي الدائب للخلاص من إرث الفتن والحروب والاغترار بالقوة الكاذبة.
نحن -كشعب- مهددون بتأبيد الشتات، وديمومة التمزّق والاستباحة؛ شأنَ الأمة العربية. فالاقتتال اليمني- اليمني، والليبي- الليبي، والسوداني- والسوداني، واللبناني- اللبناني، والسوري- السوري؛ هو ما أوصلنا إلى الدَّرْك الأسفل من الهوان. لم نَعُدْ أُمَّةً، ولا شعوبًا، ولا أوطانًا، بل كياناتٍ وعصاباتٍ ممزقة متحاربة ومفكَّكَة. هل نستطيع الإجابة عن سؤال «ما العمل؟»، أو سؤال الحل والمخرج مِنْ الكارثة المحققة بعيدًا عما يجري في غزة والضفة الغربية؟
وهل يمكن أن نستعيد وطننا، ونسترد عافيتنا بعيدًا عَمَّا يجري في سوريا، أو لبنان، أو السودان، أو ليبيا؟ يؤكد صُنَّاع كوارثنا الكبار أنْ لا نجاحَ لنا إلا بالخلاص من وهم «الوحدة العربية»، والتخلي عن كوننا أمةً نمتلك تاريخًا وحضارةً ومصيرًا مشتركًا، وهم يوهموننا أنَّنا لسنا شعوبًا، وإنما قبائل وطوائف ومناطق تحكمها العداوات والحروب.
حُكَّامُنا- طُغَاتُنا الصغار؛ الآتون من مضارب «داحس والغبراء»؛ والمنتمون إلى القبائل، والطوائف، والمناطق، والأُسَر- يُدّلِّلون على صدق ما يكتبه برنارد لويس ويتباهى به، وهيلاري كلنتون، وكونداليزا رايس، وتجسده حروب الإبادة والتطهير العرقي في غزة والضفة، وتدمير لبنان، وسوريا، والعراق، وليبيا، والسودان، واليمن، والعودة بها إلى مكوناتها الأولى، وإلى ما قبل الوطنية والدولة.
تُدَمَّرُ المنطقة بالحروب الأهلية والبينية كأفضل هديةٍ تُقّدَّم لأمريكا والصهيونية والاستعمار الغربي؛ لطمس القضية الفلسطينية، وتهجير الشعب الفلسطيني، وتَسيُّد إسرائيل كقوة حامية وحيدة، ونهب الثروات، وفرض الإبراهيمية على «عرب إسرائيل». من الخطأ بمكان قَصْر التُّهمة وتحميلها الاستعمار وحده، وإغماض العين عن عوامل الداخل بما يتصف به من ضعف، وهشاشة، وفساد نُخَبِهِ، وطغيانِ حُكَّامِهِ.
يُصوِّر الاستعمار نفسه كناقد ومنقذ من فساد الحكم العربي واستبداده، ويقوم إعلامه وأجهزة دعايته بالكشف عن جرائم الحكم وممارساته المقيتة؛ وإذا ما قرأنا مسار الربيع العربي فسوف نلاحظ التحالف وإضمار الغدر بين الاستعمار وعملائه؛ جلادي أمتهم وشعوبهم، وضحايا أسيادهم: الأمريكان، والأوربيين. يستخدم الاستعمار أدواتِهِ من الحُكَّام، والإرهابيين، والنُخَب الفاسدة؛ لتدمير مقدرات الشعوب وإذلالها، وسلبها الحرية والكرامة، ثم التخلي عنها لاحقًا.
سقوط الطاغية بشار كأسلافه: بن علي، وحسني، والقذافي، وصالح، والبشير، وآخرين في طريقهم- عظيم، والأفراح كبيرة وغامرة، ولكن تبعات الاستبداد لا تزال حاضرة، وأثرها عميق؛ فحماة الحكم؛ صُنَّاع الإرهاب الحقيقيون يتعاظم نفوذهم، ويبرزون كمنقذين وحُرَّاس للحرية والديمقراطية والعهد الجديد.
لم يسقط الطاغية في سوريا حتى استولت إسرائيل على المنطقة العازلة، واستولت على عِدِّة قرى في الجولان، وجبل الشيخ؛ ما يجعل العاصمة دمشق تحت رحمتها، والهيمنة على الجنوب السوري واللبناني.
لقد دَمَّر القصف الإسرائيلي ما تبقى من قوةٍ عسكرية سورية؛ للاستباحة؛ والتمدد؛ وفرض السياسات.
كيمنيين فإنَّ جوابَ الأسئلة الحارقة والأكثر إلحاحًا هو التَّصدِّي لمليشيات صراع الشمال والجنوب مِنْ دعاة الانفصال، والحق الإلهي، وإسقاط الرهان على الصراع الإقليمي، والتدخل الدولي، وصراعات ما قبل الوطنية والدولة، وفرض الأمن والسلام والاستقرار.
في تقاليد الحروب الأهلية يَمدُّ الطرفُ الأقوى يَدَهُ للطرفِ أو الأطراف الأخرى؛ فهل يستشعر أنصار الله، ودول الخليج والعربية السعودية أنهم الضحايا القادمون، وأنَّ الوكيل الوحيد هو إسرائيل؟
فَلمْ يَعُدْ التطبيع الإبراهيمي كافيًا؛ بَلْ لا بُدَّ مِنْ تجريد الأمة كُلِّها من عوامل قوتها: المال، والسلاح، ووضعها تحت الحماية الإسرائيلية، والعودة بها -بعد تفكيكها وتمزيقها- إلى ما هو أسوأ من الاستعمار القديم، والحماية.