مقالات
الجنيد في تعز...حراك جديد في المدينة
منذ أول لحظة سمعت فيها خبر وصول الدكتور عبدالقادر الجنيد إلى تعز؛ شعرت بأن حدثًا هامًا هو في طريقه للتحقق. هذا الاحساس لم يكن مجرد ردة فعل بلا سبب أو نتاج رابطة عاطفية خاصة بالرجل. هو شعور مجرد نابع من متابعتي الدقيقة لهذا الرجل منذ سنوات وقناعة بأن لديه ما يمكن تقديمه لتعز، للبلاد بشكل عام.
منذ سنوات تعيش تعز حالة من الجمود السياسي وكأن قدرًا غيبيًا حتّم عليها هذا الركود المفارق لطبيعة المدينة، ركود جعلها في حالة عطالة، ماكثة هناك بلا حراك دافع للصعود ولا أمل بانفراجة ما.
سنوات وليس في تعز سوى شجارات صبيانية تعكس حالة التيه والفراغ الذي تعيشه المدينة. وبقدر الضجيج المتواتر والصاعد منها بين الفينة والأخرى؛ لكنه ضجيج بلا معنى، صخب لا يؤشر لفاعلية مرتبة؛ بقدر ما يؤكد حيرة المدينة وعطالتها. ما يعني أن القصص القادمة من تعز ومهما كان صداها كبيرًا، فهو أشبه بارتدادات لطاقة بشرية مكبلة، افرازات مرضية لقوة مهدورة لم تجد منافذها المناسبة لتحقيق وجودها. ولهذا السبب؛ تنصرف فاعلية الناس نحو شجارات بلا مغزى سوى التنفيس عن الضجر والبحث عن أي موضوع تلتهي به الجماهير؛ تعويضًا عن غياب مشروع ناظم للجهد ومرتِّب للنشاط.
لكن ما الذي يعنيه هذا الحال الذي عليه تعز..؟ لماذا هي راكدة وحائرة وتائهة..؟ هناك جواب مباشر وبسيط والجواب مركب أيضًا . الجواب البسيط: هو بسبب غياب رموز سياسية ومجتمعية قادرة أن تعيد للمدينة قدرتها على ابصار واقعها بوضوح وتشق لها دروبًا جديدة. ما ينقص تعز هو وجود عقل جمعي يلملم الناس ويريهم الأفق الممكن أمامهم. لا يعني ذلك عدم وجود عقول جيدة في تعز فهي زاخرة بالرؤوس المؤهلة لكافة المجالات. لكن العقول العظيمة يمكن أن تُصاب بتشوش خطير وتفقد قدرتها على استيضاح الرؤية؛ لمجرد اشتباكها الطويل مع واقعها المسدود ووقوعها فريسة لارتباكات الواقع.
والحال هذا، كانت المدينة بحاجة لدماغ نظيف، ذهنية تحتفظ بمسافة تفكير جيدة. لديها ارتباط عميق بواقع تعز مع قدرة ذهنية عليا، قدرة على الارتفاع فوق الواقع، التحديق فيه ببصيرة، معاينته بصفاء، مع النجاة بذاتها من لطخة الواقع وتضليلاته. فخطورة الواقع لا تكمن في تعقيداته بل في اختراقه للذهن الذي يحاول قرأته وبهذا يفقده القدرة على فهمه. خطورة الواقع في تشويهه للوعي وتسريب التباساته لكل عقل يجتهد للبحث فيه عن مخرج. هذا هو ما أصاب عقول كبيرة ومهمة في تعز لدرجة تعايشها مع حالة الركود وفقدانها القدرة على أداء دورها القيادي، المتمثل في احداث تحول في واقع المدينة.
طوال سنوات ومن متابعتي الدقيقة للوضع في تعز، كنت أستشعر بدقة مأزقها المعقد وكان أحد وجوه الأزمة. ضعف القدرات التواصلية بين الأطراف الفاعلة في تعز. هناك قطيعة ظلت تكبر مع الصمت والصمت فضاء خصب لتناسل الكوابيس وزيادة الفجوة بين الأطراف، شركاء المصير الواحد. فيما جوهر خلافاتهم لا تبرر حجم الفجوة الموجودة. ومع ذلك ظلت الهوة تتسع وتركوا للمشاجرات الهامشية فسحتها لمضاعفة التوترات ومع وجود شقاق أساسي تغدو الصغائر مغذية للتوجسات، هكذا تتأصل الفجوة وتشرعن الجمود بل وتجعل من أي أفق جديد مستحيل ما لم تكن ثمة مبادرة لتحرير الوضع الداخلي للمدينة من أزمته السياسية العالقة، أزمة الجمود الناشئ عن الخصومة أو الخصومة المولدة للجمود.
ما يعني أن تعز كان ينقصها في أول الأمر، عقل سياسي جمعي، يملك الشجاعة لطرح كل الهوامش المولدة للشقاق جانبًا، والإمساك بالفكرة المركزية، تأسيس أرضية يقف عليها الجميع وتنشيط العلاقات الداخلية بين أطراف النضال والمصير الواحد. تذكيرهم بالمشترك وبث طمأنينة جديدة بينهم. تذكيرهم أن المدينة ما تزال محاصرة وقواها معطلة، وأن هذا الوضع لا يليق بقوة حيوية كتعز. إنها تعيش وضع لا مبرر له، تبدو ضعيفة الأثر، ودورها أقل مما هي جديرة به ومما تؤهله لها ممكانتها العميقة على كل المستويات.
أظن الجنيد قادر على لعب دور كهذا. وذات السبب، هو ما يشرح، تلك الفكرة الأولية التي شعرت بها، مع سماعي خبر وصول الدكتور الجنيد إلى تعز. وبالفعل كان وصوله مقدمة لضجة واسعة بدأت تدريجيًا ثم ما لبثت تتصاعد وما زالت في مستويات وسطى وما يزال الرجل يواصل حراكه، بنفس منهجه الملازم له ولا بد أن يثمر ذلك نتيجة بهذا المستوى أو ذاك.
ما يمتاز به الجنيد هو ذلك الشغل المرتب والاصرار على طرق كل الأبواب. إنه يمسك فكرته ويمضي للنهاية. يبدو ذلك واضحًا من نشاطه الثقافي وكتاباته السياسية طوال سنوات. عقل حصيف لا يترك الواقع يفلت منه، بل يستخدم تنويعاته الدائمة في اختراق الوضع، يكتب رؤيته ويعيد كتابتها، يرتبها ويعاود الإضافة إليها. يملك الرجل وعيًا سياسيًا حصيفًا وخلفية معرفية جيدة، إضافة لمتابعته الدائمة للواقع المتحرك، لهذا يتمكن من القبض عليه بشكل متواصل. والنتيجة وضوح شديد في تشخيصه للوضع مع ايمان بقدرته على الدفع به نحو دروب جديدة.
يحق لي هنا القول إن الدكتور الجنيد كان يفهم قضية اليمن. بشكل عام وقضية تعز على وجه التحديد، يفهمها بدقة تتجاوز أولئك الذين يعيشون بداخل المدينة. وأعني هنا طوال سنوات مكوثة في نيويورك. ثم جاءت عودته كتتويج لحسه السياسيي العملي وهو في الخارج. ذلك أن كتابات الرجل لسنوات لا تقول لنا إنه مجرد مثقف يمني مهتم بالشأن السياسي ومتمكن من شفرته جيدا، بل إنك تجد نفسك أمام عقل سياسي تبدو كل تحليلاته أشبه بمنهج عملي حصيف، تشخيص يمزج الفكرة النظرية بالمقترح الإجرائي وكنت دومًا أقول: يحتاج الساسة اليمنيين لمتابعة هذا الرجل كونه عقلية ترشدك لما يمكنك فعله وتنبئ كتاباته عن خبرة سياسية واقعية، لا تملك أمامها سوى القول: ينبغي انتداب هذا الرجل؛ كي يسهم في تحريك الواقع السياسي اليمني وها هو يعود نحو تعز ويصنع حراكًا جيدًا فيها.
ذهبت بعيدًا فيما يشبه المديح الشخصي للرجل، فيما لم يكن هذا ما أتقصده. لكننا نضطر أحيانًا للحديث عن الموضوع من زاوية ذاتية. ذلك أننا أمام واقع تحتاج فيه تعز لشخوص يمتازون بصفات معينة. أكثر من حاجتها لأحاديث وأفكار تشخص واقعها. فأبسط تلميذ في المدرسة أو الجامعة في تعز، يمكنه أن يملأ رأسك ضجيجًا إذا ما سألته عما تحتاجه تعز، سيبدع في حشد أفكار بلا نهاية يشرح لك معضلة المدينة ثم تغادران كل نحو وجهته وتنام وتصحو والمدينة في حالها. ما يعني أننا بحاجة لشخوص تمتزج فيهم الفكرة بالحس العملي، قوة حيوية تتدفق وتحدث هزة واقعية، تكسر الجمود وتعيد لتعز فاعليتها. هذا هو جوهر رهاني على الدور الذي يقدمه الدكتور الجنيد في تعز.
الخلاصة: تحتاج تعز لتجاوز توجساتها المعهودة، التوقف مع وضعها بشكل جذري ومراجعة بعض طباعها المندفعة، تلك النزعة لتشويش كل شيء يجب أن تتوقف. هناك ريبة غير مبررة في تعز من كل شيء، ريبة متأصلة تجاه كل حدث جديد، لربما نابعة من وعي سياسي عاجز عن فرز ما هو جدير بالتوجس منه مما هو بحاجة ليقين في التعامل معه. لذلك لم يسلم نبأ عودة الدكتور الجنيد لتعز من بلبلة مبدئية، بعضها عفوي وناتج عن غياب أي تصور أو رأي متجرد مما يمثله الدكتور الجنيد وطبيعة توجهه وبعضها يبدو مدفوعًا بوضوح.
في الحالتين نحن بحاجة لمراجعة أنفسنا، تعز بحاجة للجواب عن سؤال مبدئي مهم: ماذا تريد المدينة، ماذا ينقصها..؟ هل وضعها الحالي مقبول، وكيف تكون المحافظة الأولى ذات الطباع المدنية والوعي السياسي الخلاق، أشبه بقرية تتوجس من كل شيء وتفتقد القدرة للتعامل بروح تلقائية مع كل خطوة تسهم في دفع واقعها نحو دروب جديدة..؟
يقيني أن تعز تحتاج للتعامل بحماسة أكبر مع هذا الحراك الجيد الذي اُفتتح بعودة الدكتور الجنيد. الأمر لا يتعلق بشخص الرجل ولا هي رغبة بأسطرته؛ لكن ما قد يبدأه رجل يمكن أن يتحول لمشروع جماعي يفتح أفق جديد للمدينة، ويغدو اشتغالا مرتبًا، نشاطًا يهم كل الناس ويصب في مصلحتهم جميعًا. الكرة في ملعب المدينة، قواها الحية، وقبل ذلك وبعده، الأغلبية الصامتة، إنهم القطاع الأكبر، الجمهور الواسع والقوة الحية المنتشرة في باطن المجتمع، أولئك الذين ملوا من كل شيء، فقدوا يقينهم بأي مشروع سياسي وانكفأوا على أنفسهم. هؤلاء بالذات_وفي كتابات الدكتور الجنيد تأكيد متكرر على هذه النقطة ورهان كبير على دورهم_ يتوجب تفعيل دورهم واستعادة نشاطهم. فالناس ينكمشون حين يطول انسداد وضعهم ويفقدوا أملهم بكل القوى. لكنهم يظلون يحملون استعدادا خفيا لاستعادة نباهتهم ومسؤوليتهم العامة، حين يلمسون نشاطًا متهمًا بهم، شخصية قريبة منهم؛ تُشعرهم أن دورهم مهم وموقفهم أهم. تختلط بهم وتستعيد فاعليتهم. يحتاج الناس هذا، وتحتاج تعز، شخصية ذات بصيرة عالية، وروح تملك فائض حماس، تستيقظ في البكور، وتبث طاقة جديدة في المدينة.