مقالات
الحروب.. كيف عطلت قدرة الشعوب على الكلام..!؟
منذ بدأت أجرب استخدام الكلمات وخلق التعابير الخاصة عند كل حدث، وفي كل موقف، أود التعبير فيه عن شيء ما، كنت أرفض تلك العبارة المكررة التي يقولها الكثير، ويُفصحون فيها عن عجز اللغة على احتواء ما يودون قوله، وأعني هنا عبارة: عجزت اللغة عن التعبير، وضاقت الكلمات ولم تتسع لمشاعري، وغيرها الكثير من العبارات التي يفتتح فيها الناس حديثهم عند بعض المواقف.
لقد كنت دائما ما أعتبر هذا النوع من الحديث تعبيرا عن عجز ذاتي يتعلق بالمتحدّث نفسه، وليس عجز اللغة عن احتواء موقف وقوله كما هو، بل وبصورة أكثر دقّة وسعة، وإن أي شعور بضآلة اللغة مقابل ضخامة الحدث هو شعور يجد تفسيره في ضآلة ما نختزنه من تعابير قادرة على تسوير أوجاعنا، وتمثيل مشاعرنا، وكلما كان مخزوننا متواضعا من الكلام شعرنا بضيق اللغة، والمقصد هنا ضيقنا -نحن- وتواضع ثروتنا اللفظية ورصيدنا التعبيري.
أعترف أني كنت، وما زلت، شديد الثقة بقدرة اللغة المطلقة على قول كل شيء، بل وقدرتها على كشف المجهول، وليس فقط التعبير عن الموجود والمحسوس في عالم الأشياء والمشاعر، ذلك أن اللغة أحد أكثر أسرار الحياة ثراءً وأعظم إنجاز عبقري للكائن البشري على مرّ العصور.
إلا أن هذه الثقة المبدئية والمُفرطة بعالم اللغة والكلمات، وهي ثقة مستحقة وحقيقية بالطبع، لا تنفي أن البسطاء الذين يفصحون عن عجز اللغة في مواقف كثيرة تمرّ بهم يملكون قدرا من الوجاهة في قولهم، على الرغم أن ما يعتبرونه عجزا هنا ليس نابعا من وعي واسع باللغة وأسرارها، لكنه نتاج شعور متوتر ينبع من فداحة الأحداث التي يواجهونها.
وما بين الثقة العالية بعبقرية اللغة مقابل شكوى البسطاء المتكررة من عطالتها، يبرز السؤال الكبير: متى تكون اللغة عاجزة عن توصيف التجربة، متى تفشل الكلمات في احتواء شعور ما، وإلى أي مدى يمكن أن نثق بقدرة اللغة على مواكبة عواطف الناس والإحاطة بواقعهم وأهوال حياتهم مهما كانت متطرّفة وغير مسبوقة..؟
حسنا، ثمة ترابط أساسي بين اللغة والتجربة، فإذا كانت اللغة أداة لنقل التجربة فالتجربة هي النبع الحيّ لميلاد التعابير، وكل تجربة جديدة هي سحابة محمّلة بالمعنى تنتظر صاحبها ليُفرغها داخل أواني اللغة، وما لم يقمْ صاحب التجربة بتدوين اختلاجاته تظل التجربة حدثا شخصيا عابرا وقابلا للتلاشي والخفوت حتى من ذاكرة صاحبها.
في واقعنا العربي، وتحديدا منذ انفجار ثورات الشعوب، مرورا بكل تقلبات الأحداث، تراكمت آلاف، وربما مئات الآلاف من الوقائع المُرعبة على امتداد خريطة البلاد العربية، وجوار هذه الوقائع العامة ملايين التجارب والحكايا الشخصية الصغيرة والمفزعة، هذا الفيض الهائل من القصص والمواقف، هو منابع ثرية للكتابة ومواد خام لم تحظَ بحقها من التعامل الجدّي بما يحيل التجارب إلى معانٍ خالدة، وسرديات قادرة على تمثيل الواقع وتناقله؛ كي لا يندثر بفعل تراكم الأحداث، وتزاحم الأوجاع المتجددة.
لكن السؤال الثاني هنا، هو: لماذا لا تبدو التجارب الفائضة مولِّدة لحكايا مكتوبة وتعابير كثيرة توازي ثراء التجربة، وهنا نأتي إلى نقطة أخرى مهمّة، تفسّر تلك العبارات التي يكررها الناس في مواجهة أحداث من هذا النوع، بقولهم إن "اللغة عجزت عن التعبير".
والحال هو أن وحشية التجارب والفظاعات تجاوزت قدرة الناس على احتوائها، وبدلًا من دفعهم لاستيلاد معانيها، تسببت في تبلّدهم، كما لو أنهم وقعوا في صدمة مفتوحة ودائمة، لا يملكون أمامها سوى الذهول وفقدان الثقة بأي جدوى للكلام.
إن حداً معيناً للآلام وقدراً معقولاً من المعاناة، هو أمر دافع للكلام ومولّد للمعاني؛ لكن حين تتجاوز الأوجاع قدرة البشر على احتمالها تكون سببا يصيب الناس بالخرس، وهكذا تصاب الكلمات لديهم بالعطالة، وليست العطالة هنا في اللغة ذاتها، بل في النفس المفجوعة، لدرجة تعطل قدرتها على الاستجابة المعبِّرة إزاء الأحداث.
وفي هذا السياق، ثمة بيت شعر أثير للبردوني كان يقول:
فقد أصبحت رؤية الباكيات**لطول اعتياد المآسي أليفة.
فالبردوني هنا كأنه يكشف لنا فكرة نفسية، تتعلق بتراكم المآسي وأثرها في إشاعة حالة من الألفة مع الفظاعات، ليست ألفة تتقبّل المآسي؛ بل تخفض درجة حساسية الناس تجاهها، وتدفعهم للتعايش معها، كما لو أنها أمور اعتيادية لا تستدعي أي تحفز أو انفعال حيوي تجاهها؛ لكأن النفس من تكاثر الجراح تُطِّور دروعا داخلية، تحميها من أهوال جديدة، عن طريق إضعاف قابليتها للتأثر، فما من مساحة في النفس خالية من الجرح؛ كي تُجرح مجددا، وما من محفّز جديد للكلام.
لا يقتصر جُرم الأنظمة العربية، وما صنعته بشعوبها من حروب وفظاعات، في أنها خلقت سوابق في الإجرام لم تشهدها الشعوب طوال تاريخها الحديث؛ بل أيضا في سحق النفوس الحيّة وتدمير قدرتها على مدافعة الواقع، لم تدمّر واقعهم فحسب؛ بل ودمّرت اللغة وشوّهتها وأفقدتها جدواها التعبيرية، وتلك نتيجة موازية وطبيعية للوحشية المفرطة التي أعطبت نفسية العربي، وأخفضت درجة حساسيته تجاه أهوال الحياة المتلاحقة أمامه كل يوم.
يقال: كلما وجدت بيئة معيّنة تعاني من فائض عنف وقمع، عليك أن تتأكد أن حق مواطنيها في الكلام مُصادر، فالعنف هو النقيض الموضوعي لحرية التعبير والتفكير، ومن يقمعك هو من لا يرغب بسماعك، ذلك أن استخدام السلاح هو إعلان انتهاء الكلام ومحاولة للسيطرة على الواقع بوسيلة أخرى هي القوّة.
في البداية تُقمع حرية التعبير وتنتشر الفظاعات، ثم بعد أن توغل السلطات في قمع حرية الناس في الكلام، يتسبب القمع بتعطيل قدرتهم على مواصلة الحديث، حتى أولئك الذين ما يزالون أحياء، يشعرون بالعجز أمام كوارث فاقت توقّعاتهم، ولم يستعدوا لمجابهتها، ولو بخلق تعابير جديدة وحكايا تقترب من التوصيف الدقيق للمأساة.
وفي هذا المقام، يمكننا الإشارة إلى المجتمعات الغربية كنماذج تمكّنت من تقليص العنف في داخلها، ولعلّ اهتمامها الكبير بحرية التعبير والدعم المطلق للنشاطات الإبداعية والعناية الفائقة باللغة والكلمة والفكرة، نابع من إدراكها للعلاقة العكسية بين العنف وتوسّع الحق في الحديث، فكلما كانت الشعوب أكثر تعويلا على قدرة الكلمة في تسوية النزاع، قلّ اعتمادها على العنف لحل مشاكلها. ليس بالضرورة العنف العام، بل حتى الجرائم الفردية، فلا يلجأ الفرد إلى الانفجار واستخدام القوّة، إلا متى كان عاجزا عن التعبير والدفاع عن نفسه بطريقة ناعمة وهادئة.
الخلاصة: نحن أمام مهمّة معنوية شاقّة لا تقلّ أهمية عن المقاومة الواقعية والمادية لوحشية الأنظمة، مهمّة تتعلق بتحرير النفوس الجريحة من الآثار الخفيّة للحروب، بتطوير قدرتنا على الكلام، الاهتمام بالتعابير المبكترة، وخلق روابط جديدة بين الكلمات، تجاوز اللغة المكررة والصيغ الجامدة، مواكبة الأهوال بلغة نشطة تستثمر الجراحات وتداويها بمعاني نابعة منها.
يتوجّب علينا دعم النشاطات الإبداعية، تشجيع الكتابات الأدبية، تعزيز الحضور الفني، التنقيب عن الحالات الناشئة، والاحتفاء بكل ما يُنتج على كل المستويات، فكريا وفلسفيا وفنيا، فتح نوافذ للجدل المنطقي، وندوات بحثية، ومنتديات حوارية، وكل ما من شأنه أن يعيد للناس ثقتهم بجدوى التعبير، وتعزيز قدرتهم على مدافعة الواقع العنيف بمزيد من الفن والكلمة والحكاية والفكرة والسيطرة على حياتهم عن طريق تطوير قدرتهم على وعيه وإدراكه، كمقدمة لمدافعته وتحييد كل مخاطره.