مقالات
الحوثي في الرياض: الضربة الأخيرة للشرعية..
حين تستضيف دولة معيّنة جماعة غير شرعية من بلد آخر مباشرة، توصف الدولة المستضيفة بكونها دولة معادية لذلك البلد الذي أتت منه تلك الجماعة الفاقدة لأي مشروعية.
"الحوثي في الرياض"، هذا النبأ ليس حاملا معه أي وحي دبلوماسي، ولا هو تعبير عن تدبير سياسي ناجح، ويمكن تفهُّمه. فحين يذهب الخصم "الحوثي" قبل الحليف "الشرعية"؛ كي يتفاوض مع المملكة، فالأمر يعني شيئا واحدا أن من كان يحمل صفة "انقلابي" يتمدد على حساب الممثل الأساسي للبلد "الشرعية"، وقد اقترب موعد تصفيتها الأخيرة، كما توحي بذلك الأجواء.
لو أن الأمور تسير كما يجب لها أن تسير ووفقا للمعايير الصارمة والضامن الوحيد لمصير يؤسس لدولة، فالأمور كانت ستكون مختلفة؛ ما كانت المملكة بحاجة إلى ترتيب زيارة للوفد الحوثي إليها، ذلك أن كف أذاه مسؤولية الدولة المنتظرة والممثل الشرعي للبلاد.
ولكن؛ لأن المملكة تعرف أي شرعية ساندت وأي دولة يمنية حاربت لأجلها، أو ما المستوى الذي تمكنت من إنجازه فيما يخص بنية المؤسسة الشرعية وعوامل قوتها؛ لأنها تعلم حقيقة الواقع الذي أنجزته؛ فهي ليست واثقة من أن الحامل الشرعي قادر على أن يكفيها شرّ خصمها وخصمه "الحوثي"؛ ولهذا فضّلت الحديث المباشر معه.
تبدو الأمور مقلوبة تماما. فبدلا من أن تكون الدولة اليمنية وممثلوها الشرعيون هم من يدير الحوار مع الجماعة المارقة "الحوثي" يظهر العكس. الحوثي يفاوض المملكة مباشرة، ويشترط رفض أي حوار له مع الشرعية، ويعتبر ذلك أمرا ثانويا؛ سينجزه بعد الوصول إلى صيغة سلام بينه وبين المملكة.
لكأن الشرعية مجرد معارضة هامشية للحوثي، ذلك أن المشكلة المركزية للبلاد هي حرب السعودية على الدولة اليمنية، وأما ممثلو هذه الدولة فهي "جماعة الحوثي"، هكذا يقول منطق التفاوض في الرياض. إنه يجري وفقا لتعريفات الحوثي للحرب والسلم، ويؤكد روايته النهائية لجوهر الحرب، وتلك هي الضربة الكبرى، الترسيم الأخير للمستقبل اليمني المجهول.
يفاوض الحوثي خصومه على نار هادئة، يحرص على أن يحصل منهم في كل محطة للحديث على مكاسب جديدة. هذا في طريقة تعامله مع الخارج، وبالمقابل يمضي في نهجه الداخلي، ولغته وسياساته تماما كما كان يتصرف في الشهر الأول من الحرب. يرسل وفد تفاوض إلى الرياض، أشبه ب"محصلي أرباح"، فيما يتعامل مع شعبه كأنه يخوض حربا مفتوحة ضدهم، حيث لم ينقص من عناصر الحرب سوى توقف مؤقت لضربات المدافع. كأن الحرب في نظر الحوثي هي وقف إطلاق النار ولا تستلزم أي تغيرات سياسية داخلية.
للحوثي وحده أن يحصد الثمرة، ثمرة الحرب والسلام، أثناء استمرار المعارك وحين تتوقف. في الحالتين يضاعف الحوثي مكاسبه، ولا يبدو أنّه مستعد أو حتى يفهم ويدرك ماذا تتطلب هذه المرحلة الموازية للسلام، أو اللاحقة لها من تدابير مختلفة. تؤكد للناس وجود نوايا لسلام حقيقي أو مصير دولة يكون الحوثي طرفا فيها. إنه يتصرف وفقا لما هو "حلم" كأنه الحاكم الوحيد لليمن.
لا يتصرف الحوثي انطلاقا مما تحت يديه من سلطة على جزء من الأرض اليمنية. إنه لا يتصرف حتى وفقا لنتائج الحرب، بل كملِك لليمن كلها، بما في ذلك الأراضي التي تحت سلطة خصومه. يعتبرها أرضا تعود في أصلها إلى حقه، حتى لو لم يكن قد تمكن من إخضاعها. يتصرف وفقا لحلمه الكلي، وهذا ليس أمرا مفاجئا؛ بالنظر إلى عقيدته السياسية؛ لكن ما هو صادم، وجود تواطؤ واع أو متبلد تجاه الشروط التي يتشدد عليها الحوثي. لا يبدو أنّ أحدا منتبه، لكون ما يطلبه الحوثي يحمل تعريفا خطيرا للوضع. حيث تكون نتيجة الموافقة على شروط الحوثي هي اعترافا بكونه الحاكم المركزي للبلاد. الأمر أشبه بانتزاع الصفة الشرعية كليا، وتلبيسها للجماعة بشكل عملي، وتلك هي الكارثة.
يُطالب الحوثي بالتفاوض المباشر مع السعودية، وهو ما يحدث فعلا. يرفض أي حديث مباشر مع الطرف الشرعي، ويعتبرها مسألة ثانوية، وربما لا يراها موجودة. يُطالب بفتح كلي للمطارات والمواني، ويطالب أيضا بدفع تعويضات الحرب إليه، ومبالغ إعادة الإعمار، كما يشدد على حصته بنسبة 80% من إيرادات نفط وغاز مأرب وشبوة وحضرموت. أمام هذه الشروط الأساسية، لا أظن أي مراقب، بحدّه الأدنى من الإدراك العقلي، إلا أن يتنهد، ويقول بجملة واحدة: هذه شروط انتصار كلي. تفاوض يسعى لإلزام الآخرين بقبول "هزيمة كلية، ونهائية وصادمة".
الخلاصة:
من الأفكار البدهية في علم النفس أنّ الأعداء يحملون لبعضهم إجلالا كامنا ويميلون إلى تقدير خصومهم، أكثر مما يتحمسون لاحترام أصدقائهم. ذلك أنّ من طبيعة النفس أنّها تضع اعتبارا لمن يناهضها، ويحتل مساحة من تفكيرها، أكبر من تلك التي ينالها من يتفق معها في النهج، أو يواليها بشكل غير مشروط. هذه فكرة مبسطة تحاول شرح الهالة التي تُحاط بها مسألة التفاوض الحوثي مع السعودية.
لقد صار الحديث عن السلام يقترن بكل محادثة للمملكة مع الحوثي. وكأن اللوحة النهائية لليمن تتشكل وفقا لشروط الحوثي مع المملكة. هذا لوحده دليل كافٍ عن التعريف النهائي للواقع اليمني، وكيف يتم ترسيمه بواسطة هذه المقدمات المختلة. نحن أمام طرف يمني محدود يختطف مساحة ومجتمعا كبيرا من اليمن، فقط لمجرد امتلاكه السلاح، وتخلخل خصومه. أصبح يربط مصير البلاد بالنجاح في منحه مزيدا من التنازلات، بتحقيق أكبر قدر من شروطه، بإزاحة القطاع الأكبر من ساسة البلاد وقواها، ليصبحوا مجرد مسألة ثانوية. هذه ليست مفاوضات سلام أو طريق يمكنه أن يفضي إلى مصير محترم.
إنها حفلة: يريدون أن يقولوا فيها جملتين نهائيتين: كل ما قدمه اليمنيون لمجابهة الحوثي كان مجرد توترات هامشية لمعارضة عاجزة. وفي حين كان اليمنيون يخسرون كل يوم أكثر، كان الحوثي يراكم الأرباح في الحرب وفي السلم. كل قتيل قدمته الجماعة رفع منسوب رصيدها، كل صاروخ وطائرة مسيَّرة اجتازت الحدود زادت من رعبهم في عيون المملكة. فالطريق نحو السلام يمضي بمعيار أحادي: بمقدار قدرة الحوثي على قتل خصومه في الداخل، وبمقدار الرعب الذي صدَّره للخارج تكون مكافأته.