مقالات
الحوثي يتنبأ بثورة قادمة عليه
بات مؤكدًا أن الحوثي تفاجئ بالحشود الشعبية العفوية وابتهاج الناس بذكرى ثورة سبتمبر قبل أسبوع تقريبًا. مجرد حصول فعل" المفاجأة " هو أمر جدير بالتوقف معه. إذ كيف تتفاجئ سلطة، لا يوجد لديها أي استشعار صحي تجاه المجتمع الذي تحكمه..؟ بالطبع، لم يتفاجئ الحوثي لكونه يقظًا إزاء ما يعتمل في صدور الناس أو لأنّه ممن يضع اعتبارًا مبدئيًا لميولاتهم وانتماءاتهم الجمعية؛ بل لأن الحدث كان صاخبًا لدرجة أن البشر المخدرين أو فاقدي الوعي؛ يمكنهم ملاحظة تفاصيل البهجة اليمنية وذلك اللغز المُعجِز : قوة الولاء الشعبي الراسخ تجاه" الجمهورية " وثورة 26 سبتمبر.
كان الحوثي يتوَّهم أن زخم ثورة سبتمبر؛ يُحتمل أن ينخفض تدريجيًا كل عام. ذلك أنه السلالة منذ أول لحظة لسيطرتها على صنعاء تشتغل بجهد وحماس دائمين؛ لاحلال عقيدة طائفية تود تعميمها كبديل عن الجمهورية. وبالتوازي تعمل باصرار على سحق حياة اليمني وانهاكه ماديًا ومعنويًا. وهذان العاملان يوفران بيئة مثالية مناسبة لتجريد المجتمع من كل إيمان بقيمة وطنية أو حتى قيمة دينية تمنحهم الأنس وتعينهم وقت الشدائد.
لكن ما حدث في سبتمبر كان معاكسًا لكل الأمنيات والتوقعات الوهمية في أذهان السلالة. فجأة حضرت ذكرى سبتمبر وتصاعدت القوة المعنوية لفكرة الجمهورية. _النقيض التاريخي لفكرة الإمامة_ لتخفت جوارها كل الأضواء ويستعيد كل شيء حجمة المنضبط. فحين تتخذ الجمهورية موقعها كقيمة عامة، ظلالًا يسري فوق رؤوس الجميع، مؤمنين بها أو يكفرون. يتجلى ما هو وهم ويبرز وجه القيمة الحقيقية دونما كلفة ولا جهد صناعي لتزوير الهوية العامة للمجتمع.
لعل النتيجة الأولى لخروج الجماهير اليمنية احتفاءً بسبتمبر؛ هو استيقاظ القيادات السلالية من غفوتها وخدرها الطائفي. لكأنهم استشعروا أن النافذة التي اندحر بها أسلافهم، هي ذاتها الدينامو المحرك لأي هبة شعبية تزيح نظام حكمهم القهري.
بعد أسبوع من سبتمبر، تسرّب تقرير داخلي أعدته إحدى دوائر الرقابة الداخلية لحماية نظام السلالة في صنعاء. تنبأت فيه باحتمالية حدوث احتجاجات شعبية متفرقة ضدها. تستلهم شجاعة خروج الناس في سبتمبر؛ كي تنادي بمطالب حقوقية هنا وهناك. ما يعني أن الاحتفاء الشعبي بثورة سبتمبر هو القيمة الملهمة لأي تمرد متوقع ضد الجماعة هنا وهناك.
لكن تنبوءات أي سلطة بالثورة، هو أمر لا يجدي في تلافي حدوثها. ذلك أن شكل التمرد المحتمل ضد سلطة قمعية، هو غالبًا أمر سيحدث دونما تخطيط يمكن وأده. وعليه يكون التوقع أمر عديم القيمة بالنظر لانتفاء قدرة السلطة على احتواءه مسبقًا. بل إن أغلب الظن، حدوث العكس. أي أن توقعهم؛ سيضاعف من مخاوفهم ويدفعهم لتدابير حمقاء تُعجِّل أي خروج ضدهم وتضاعف قناعة الناس بضرورة إيقاف تعسف السلطة والتصدي لمحاولاتها المتواصلة تجفيف أسباب الحياة أمام المجتمع.
في محاولات علم الإجتماع وضع مبادئ تفسيرية لحدث" الثورة" يضع في المقدمة عاملان مهمان يشكلان المنطلق الأساسي لأي ثورة. أولها: " انهيار نظام المجتمع" والمجتمع هو مفهوم عام يدركه الناس؛ لكنه ليس جهازًا ذو بنية محددة الملامح؛ كي يلاحظ الناس انهياره. وحين تحاول تنزيل هذا الشرط على المجتمع الواقع تحت سلطة الحوثي. سوف تتباين النتيجة في تفاصيلها؛ لكنها بالمجمل ستميل نحو تأكيد وجود انهيار كلي للمجتمع وبشكل تدريجي وصامت. حتى لو لم يكن بمقدور أحد حسم هذه الخلاصة. لكن بالنظر لأي معايير للحكم عن الشروط الأساسية لحياة لائقة بالإنسان. فالمجتمع بلا شك، يقع أسفل الحدود الدنيا للحياة. وعليه فهذا الشرط يبدو متحقق ولو نسبيًّا، مع صعوبة الجزم به وهي صعوبة ستظل قائمة؛ حتى لو أن الثورة اندلعت في الغد.
الشرط الثاني لقيام أي ثورة، هو توفر المجتمع على عقيدة دينية أو دنيوية " وطنية " تكون بمثابة الخيط الناظم، الأرض الصلبة والسماء الواضحة. أمام أي شعب. ليغدو مؤهلًا لتمرد منظّم. حيث يتقدم الناس انطلاقًا من قناعة موحدة ومصدر تشريع يهبهم الإيمان بحقهم المسلوب والعزيمة على هدفهم باسقاط السلطة التي تستلبهم. وهذا الشرط يبدو أكثر تحققًا وأشد وضوحًا ويزداد قوة كل عام. وعليه فعوامل أي ثورة جاهزة وتكتسب قوة بشكل مستمر.
هذا يعيدنا نحو عنوان حديثنا: الحوثي يتنبأ بالثورة. فهو بالطبع لم يتنبأ بها لكونه مدرك لمدى الانحدار الذي يعيشه المجتمع الواقع تحت حكمه. ذلك أننا أمام سلطة عمياء ولا ترى سوى نفسها. لكنه شرارة النبأ الذي لامس مسامع السلطة السلالية المخدّرة. هو ارتفاع صوت الوجدان الوطني. ظهوره القوي؛ لكأن الجمهورية غدت سحرا؛ يمكنه أن يبهر أعين العميان ويرد لهم أبصارهم ولو لبرهة؛ كي يدركوا ما ينتظرهم. ليلاحظوا الثراء الباطني للشعوب؛ حتى في لحظاتها السياسية المُجدبة. وكيف تتحرك الجماهير لتنذر السلطات الضآلة، ثم في لحظة مباغتة؛ تكنسها للأبد.
الخلاصة:
يشعر الحوثي بفقر معنوي شديد أمام ثراء القيمة الجمهورية وما يملكه الناس من ذخيرة كامنة تمنحهم مرجعية عليا وقوة دافعة لابطال كل المحاولات السلطوية لتذويبهم في جلبابها. يعتصر الحوثي كل موارده المعنوية؛ كي يعيد صياغة الوجدان العام بما يناسب منهجه الخاص. لكنه يتفاجئ بانبعاث المجتمع المسحوق وفي أعماقه وفمه أناشيد وصلوات وولاء ثابت لقيمة مفارقة هي " جمهورية سبتمبر" ويبدو أن ما من جهة ولا قوة في التاريخ قادرة على تقطيع جذور هذا الولاء الحاسم للجمهورية وعليه فليس أمام السلطة الخائفة؛ سوى سلوك أحادي وإجباري، إما أن تعيد صياغة نفسها للدخول على خط الفكرة الجمهورية وموائمة قناعاتها مع النهج الوطني العام. أو انتظار لحظة تنفجر فيها تمردات أكثر احتشادا وديمومة. وفي الحالة الأخيرة لا يجدي معرفتهم بإحتمالية حدوث هذا التمرد؛ كي يلغوه. ذلك أنهم لم يدخروا أي وسيلة أو حيلة إلا وقاموا بها؛ لضمان استلاب المجتمع كليًا لسلطتهم ومع ذلك؛ خيب الناس أوهامهم كل مرة واعتصموا بالحقيقة الوطنية. " الجمهورية " وقد غدت عقيدة غير قابلة للتجاوز أو الاحتيال.