مقالات
الدولة الوطنية وسؤال الجمهورية في اليمن
عندما رفع رئيس هيئة الأركان، الضابط عبد الرقيب عبد الوهاب، مع رفاقه في قيادة الألوية العسكرية شعار "الجمهورية أو الموت"، أثناء معركة حصار السبعين التي وضعت حداً فاصلاً لمعارك الدفاع عن الجمهورية، لم يكونوا تحت هذا الشعار يخضون معركة الخلاص الأخيرة مع سلطة الإمامة فحسب، بل كانوا يدركون أن الانتصار على الملكية أو على بيت حميد الدين يعني ضروريا الانتصار لمحتوى النظام الجمهوري {الدولة الوطنية}، وليس الانتصار للقوات التي احتشدت داخل معسكر الجمهورية مع اندلاع ثورة سبتمبر، وهذا ما شكّل أحد المضامين السياسية المستقبلية في أحداث أغسطس التي انفجرت داخل معسكر الجمهورية بعد هزيمة الملكية، وأدت إلى تصفية عبدالرقيب عبد الوهاب ورفاقه، خصوصا وقد شكّلت مآلات هذه الأحداث حالة انفراج سياسي وعسكري أمام زحف القبيلة السياسية الجهوية داخل أجهزة ومؤسسات سلطة الجمهورية، وهو ما توافق يومها مع التوجّهات السياسية لدولة الجوار، التي كانت داعمة لعودة الملكية الإمامية إلى سدة الحكم في العاصمة صنعاء، بحيث تخلّت هذه القوة الإقليمية عن دعم الملكية الإمامية، واعترفت بالجمهورية العربية اليمنية في ظل تحالفها الجديد مع مشايخ وضباط القبيلة السياسية، التي استلمت فعلياً مقاليد سلطة الثورة والجمهورية من بعد انقلاب 5 نوفمبر 1967م، وأحداث أغسطس 1968، خصوصاً بعد انسحاب القوات المصرية من شمال اليمن، الأمر الذي جعل من القبيلة السياسية سلطة جهوية تقليدية حاكمة في ظل النظام الجمهوري، ناهيك عن كون هويّتها السياسية والاجتماعية -أقصد القبيلة السياسية- شكّلت في كل الأحوال حالة سياسية واجتماعية عصبوية ممانعة لحضور فكرة الدولة الوطنية الديمقراطية.
هكذا كان هو حال المشهد السياسي للجمهورية العربية اليمنية، في عام 1970، حين أقدمت سلطتها الحاكمة على عقد اتفاقية المصالحة بين الملكيين المحاربين وبين اللا جمهوريين الحاكمين، أو قل الجمهورين اللاثورين هذا من جهة أولى، وبين سلطة صنعاء والمملكة العربية السعودية من جهة ثانية، ما يعني أن اتفاقية المصالحة الوطنية كانت في الزمان والمكان الذي تمت فيه عملية التشطيب السياسي في مسألة التخلي عن عودة الإمامة، وعن مشروع الثورة السبتمبرية في الوقت نفسه، لهذا ظل محتوى النظام الجمهوري مع انتصار الجمهورية على الملكية الإمامية قابلا لطرح سؤال الدولة في وجه السلطة الحاكمة في صنعاء {سلطة القبيلة السياسية الحاكمة في ظل الجمهورية}، وهو ما تصدّت له- "أي لسؤال الدولة" بطريقة مباشرة- ثورة التصحيح التي قادها الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي عام 1974م.
ما يميّز ثورة التصحيح، التي قادها الرئيس إبراهيم الحمدي، عام 1974، أنها تعاطت بشكل مباشر مع جذر المشكلة اليمنية في الشمال، فلم تكن في حقيقة الأمر ثورة ضد حاكم محدد بعينه أو ضد نظام حكم محدد، أو ثورة ضد أيديولوجيا حاكمة، بل كانت ثورة تصحيح ضد واقع اللادولة في الشمال، هدفها الانتصار في الحاضر والمستقبل لفكرة الدولة الوطنية في اليمن، وهذا مكمن السر في مسألة تخليد الرئيس الحمدي في ذاكرة اليمنيين شمالاً وجنوباً مع اختلاف توجهاتهم السياسية والحزبية، فالرجل رغم أنه حكم فترة قصيرة جداً إلا أنه استطاع، خلال هذه الفترة الزمنية، أن يلامس وجدانياً حاجة اليمنيين المفقودة تاريخياً {سلطة الدولة}، لهذا كان من الطبيعي أن يجد الرئيس الحمدي نفسه (أراد ذلك أو لم يرد) يخوض معادلة صراع حادة مع مشايخ وضباط القبيلة السياسية الجهوية، التي بدأت مع ثورة التصحيح تفقد تدريجياً مقاليد سلطتها وحتى دورها السياسي في ظل الجمهورية لصالح سلطة الدولة، التي بدت حاضرة سياسياً وقانونياً داخل الوجدان الشعبي.
بغضّ النظر عن بعض الأطروحات، سؤال محتوى الجمهورية بدأ مع ثورة التصحيح يفقد تدريجياً مشروعية طرحه السياسي على طاولة المستقبل، وذلك يعود إلى حقيقة أن ثورة التصحيح بقيادة الرئيس الحمدي تعاطت إيجابياً مع الحلول الجذرية للمشكلة اليمنية {مشكلة غياب الدولة}، وهو ما انعكس بشكل إيجابي على العلاقة بين شمال اليمن وجنوبه، وكذلك بين السلطة والمعارضة في الشمال، حتى مسألة الوحدة اليمنية بدت قابلة للتحقيق على أساس إيمان نظامي صنعاء وعدن بمشروع الدولة الوطنية الديمقراطية لولاء عملية اغتيال الرئيس الحمدي في 1977/10/11م، بحيث مثّل هذا الاغتيال انتصارا لسلطة القبيلة السياسية على حساب سلطة الدولة في شمال اليمن.