مقالات
الزمن كطقس: عودة الإنسان إلى جذره الحِميري
في الأول من شهر "ذو ثابة" اليمني الحِميري، ترتجف الأرض من فرط الخصوبة، وتبدأ الرِّيح في هدهدة السنابل الأولى، ينطق الزّمن بلغة المسند، معلنًا بداية السنة الحِميرية، لا بوصفها رقمًا يُضاف إلى جداول النسيان، بل باعتبارها لحظة انبثاق لهوية اعتُصرت طويلًا بين فكي النسيان والاستلاب، هنا لا نحتفل بحدث قديم، بل نعيد التفاوض مع الزّمن ذاته، مع سؤال البدايات ومعنى الدّورات، مع لحظة انقسام الزّمن إلى "قبل" و"بعد"، وكأنّ الإنسان الحِميري حين ابتكر تقويمه لم يكن يحاول فقط تنظيم أيامه، بل كان يحدّق في الشمس ويقول لها: لن أكون تابعًا لكِ، بل شريكًا في صياغة الضوء، لقد أدرك الحِميريون أن الزّمن لا يُقاس، بل يُعبَد، لا يُراقَب، بل يُحسّ، وأن التاريخ ليس ما يُكتب، بل ما يُعاش في عظام اللغة ونبض الأرض.
كان رأس السنة الحِميرية لحظة تتجدد فيها الحياة لا على مستوى الطقس الزراعي فقط، بل على مستوى الوجود نفسه، كانت بداية السنة هي بداية الإنسان، وكان الوقت يُستفتح بقرابين، لا لتُرضى به الآلهة فحسب، بل ليُشرك الإنسان نفسه في دورة الخلق، في هندسة الحصاد، في صناعة المعنى.
قال المؤرخ يوسف محمد عبد الله (باحث في نقوش المسند اليمنية): "إن اليمني القديم لم يكن ينظر إلى الزمن كعنصر خارجي، بل كامتداد داخلي، وكان النقش بالمسند هو طريقة ذلك الزمن ليُسطّر نفسه، فكل نقش هو زمن محفور، وكل حرف هو شظيّة من لحظة عاشها البشر وحفرتها الآلهة في وجدانهم".
وقال جواد علي في كتاب 'المفصل في تاريخ اليمن قبل الإسلام': "إن التقويم كان أداة لتثبيت الشرعية والهيمنة والكرامة"، لكنه لم يقل، أو لعلنا لم ننتبه، أن الزمن حين يُربَط بالأرض يصبح مقاومة، وأن رأس السنة الحِميرية كان شكلًا من أشكال السيادة، السيادة على الزّمان، على الذاكرة، على الفقد، فحين يحتفل شعب ما بزمنه الخاص، فإنه يقول للعالم: لي زمني، لي إيقاعي، لي تاريخ لا يشبه سردياتكم، ولا يدخل ضمن تقاويم عواصمكم الباردة".
الحِميريون لم يكونوا يقيسون الوقت بالساعات، بل بالسنابل، بالمطر، بمواسم الإلهام والنداء، وكانت شهورهم كأنها فصول شعرية: ذو ثور، ذو قوس، ذو ماز، ذو سمع، أسماء لا تستدعي الفلك فحسب، بل تستبطن روح الكون، وتربط الإنسان بحركات الغيم وطبائع الجبال، واليوم، صار الإنسان يركض داخل ساعات مستوردة وأعوام بلا طقوس، علينا أن نعود إلى أصل التوقيت، إلى اللحظة التي كان فيها الزمن طريًا يمكن لمسه، وساخنًا من فرط القرب، إلى رأس السنة الحِميرية لا كذكرى بل كاستعادة، كحفر في جدار المعنى.
كان الحِميريون، كما وصفهم الدكتور يوسف محمد عبد الله، "شعبًا زرع الزمن كما يزرع القمح، فاستنبت منه مدنًا وقرابين وممالك".
والزّمن في الميثولوجيا الحِميرية لم يكن محايدًا، بل كان زمنًا مقدّسًا، فيه تنعقد الطقوس، وتُحدد الكرامة، وتُستعاد السيادة.
في منتصف نيسان، تنكسر شمس الشتاء وتبدأ الأرض بالارتجاف من فرط الحياة، كانوا يعلنون بداية السنة الحِميرية. ليس "رأس السنة الحِميريه" مجرد تاريخ، إنه انبعاث لروح الذاكرة، وضخّ جديد في شرايين الهوية.
كان التقويم الحِميري شمسياً، لكنه لم يكن عاريًا من الفلك. حملت أشهره أسماءً لا تحاكي مجرد النّجوم، بل تُراكم حولها معنى الأزل.
نعم، قد نكون محاطين بالبُؤس، مثقلين بالحروب، مشدودين إلى جراح لا تكفّ عن النزف، لكننا حين نحتفل برأس السنة الحِميرية، فإننا لا نُجمّل الحاضر، بل نستدعي ماضيًا يشبه المستقبل الذي نستحقه، نؤكد أننا لسنا أيتام التاريخ، بل ورثة زمن كان الإنسان فيه مركزًا لا ذيلًا، وكان اليمني فيه يكتب الزّمن لا يتلقاه، يصوغه لا يستهلكه، وكان رأس السنة يومًا لبعث الزّمن اليمني لا كمجرد أيام تمضي، بل كأثر خالد في تضاريس الجبال، وأسماء الآلهة، وخط المسند.
حين نستعيد "رأس السنة الحِميرية" اليوم، فإننا لا نحتفل بتاريخ بقدر ما نعلن استعادة الوعي الأول بالزّمن اليمني... هذا ليس احتفالًا رمزيًا، بل حركة مقاومة ضد التلاشي؛ فمنذ ألفي عام، كان المزارع اليمني ينظر إلى السماء، لا ليسأل متى يبدأ الشتاء، بل متى يبدأ "ذو جوزا"، ومتى يحلّ "ذو نسن"؛ لأنه بذلك يعيد وضع نفسه في مركز الكون.
يقول المؤرخ اليمني عبد الله غانم: "الزّمن في اليمن القديم كان يُستفتح بقرابين لا ليُرضى به الإله فقط، بل ليتم إشراك الإنسان في دورة الخلق من جديد". وهنا يتجلّى المعنى: أن بداية السنة لم تكن فعلاً زمنيًا، بل فعلًا وجوديًا.
لسنا بحاجة إلى إعادة اختراع الزمن؛ نحن فقط بحاجة إلى استعادة لغتنا معه، أن نعيد تشكيله بلغتنا القديمة، أن نُنقّيه من دخان النِّسيان؛ فرأس السنة الحِميرية ليس ماضياً يُحتفل به، بل هو أفقٌ نستعيد به زمننا بلغتنا، بخطّنا، بترابنا، ونرفع رؤوسنا مثل أجدادنا الحِميريين حين قالوا في أول السنة: "بدأت الدورة من جديد، عادت الأرض إلى نفسها، وعاد الإنسان إلى جذره الأول".