مقالات

الساخرون من ثورة 11 فبراير

09/02/2024, 07:55:26

كثُر الساخرون من فبراير؛ لكأننا اقترفنا جُرمًا. إنّهم لا ينتقدون الثورة كحدث وفعل، بل يتخذونها واقعة للهزء كما لو كانت فضيحة يجب طمسها. هؤلاء ليسوا نُقّادا علينا الإصغاء إليهم باهتمام وتدوين ملاحظاتهم بتواضع وإجلال. إنّهم أشبه بالبقّالين والأذهان التجارية، معيارهم البائس هو الربح أو الخسارة، وتلك موازين صالحة للبيع والشراء والمزايدات الوضيعة، وليست فكرة لتقييم التاريخ، لحظات التحول ومصائر الشعوب. 

فبراير حدث عريض، وقع في زمن ما، هو جزء من تفاعلات التاريخ، وتدافع المصير. نعم، لم يُكتب له أن يأخذ مداه، ولم تستحِل التجربة إلى نموذج للحكم؛ لكنها تظلّ واقعة مُحركة، فاعلية نادرة في تاريخ شعبنا. لم تكن فرجة ولا نزوة عابرة، بل لحظة بيان يجدر بكل من يلهو على سطوح الجغرافيا أن يضعها في اعتباره عند كل تقييم وحساب. 

طوال عمر الجمهورية، ترسخت فكرة منحطة لدى ساسة البلاد، فكرة تنظر للناس كأنّهم قطيع من الكائنات المغفلة، لا يجدر بأحد أن يأخذهم في الحسبان، آلامهم مستحقّة، وأحلامهم شعبوية ورخيصة، واعتراضاتهم رغاء، عقول فاقدة للنباهة والتهذيب. دعوهم وسوف يرعدون ويتلاشون، هذه النظرة للناس تمكنت فبراير من زجرها في رؤوس الساسة، وأيقظت لديهم واجب الاحترام والتهذيب في حضرة المحكومين. 

لقد نجحت فبراير برفع مستوى الشعب، على الأقل رفع قيمته المعنوية في أذهان الساسة، وفي ذلك تعميق، بل وتحقيق للهدف الأول من أهداف الجمهورية. لهذا، فمن يسخرون من الحدث باستمرار، وفي كل موعد لذكرى الخروج، هم يُصدِّرون أنفسهم كمحامين عن البداوة، مدفوعين برغبة في ترميم الفكرة المنحطة: فكرة السخرية من أيّ قوة مدعاة للناس العاديين.

يتساءلون بلؤم: أين هي فبراير؟ ماذا حققت؟ ما جدوى استحضارها كحدث والاحتفاء بها كبشرى..؟ لربما عليهم أيضا أن يتساءلوا: ماذا يقول التاريخ عن ثورة 1948، وعن المحاولة الدستورية 1955..؟ هل يطمسها من المدونة، أم يعتبرها العتبات التمهيدية لسبتمبر..؟ لا بل إنها لا تقارن من حيث جوهرها بما مثلته فبراير. 

مرّة أخرى، أنت أمام تُجار يهزأون بالتاريخ. إن من يُبشِّر بالكفر بفبراير، ويدعو الناس إلى السخرية منها، هو لا ينجح في طمس الحدث ولا تقويض الفكرة، كما لا يُضلل وعي الناس بالحدث فحسب، بل يحاول تضليلهم بجوهر الحياة نفسها، الحياة كتراكم لأفعال شتى، تبدلات وتقاطعات لا تتوقف، لكنها تفضي دوما للغاية مهما بدأ لك غياب الأثر المباشر لفعلك، أو تيه عن الهدف. أظن الثورة كالحياة، بمفهومهما الفلسفي، تجربة للعيش ومحاولة دائمة للفعل والتأثير. 

الساخرون من فبراير يرتكبون حماقة ثقافية تتمثل في تشويش وعي الجماهير بالفعل السياسي، يحاولون تثبيط الناس عن ضرورة الدفاع المتواصل عن موقعهم وحقهم في خارطة السياسة. وهذا ليس موقفا سياسيا مناهضا للثورة كحدث تعرض للكبح، بل يتعداه للاضرار بالوعي الجمهوري لدى الناس. 

ما يعني أن من يجتهد لتبخيس فبراير هو كافر بالجمهورية بوعي وبدون وعي منه. وما الجمهورية سوى تلك الفكرة التي تتخذ من الناس العاديين مبدأ لها ومرجعية ثابتة في كلّ الأحوال. 

في الخطأ وفي الصواب، الجمهورية لا تكفر بأبنائها، وفبراير حدث جمهوري، يؤمن بالناس، وبرأيهم الفردي؛ عباقرة كانوا أو حتى حشود برئية عبّرت عن رفضها دون وعٍ كافٍ بالغد. 

الدفاع عن فبراير ليس تشبِّث بالسراب، بل رفض لوسم الناس بالفشل، أو تحميلهم إياه، رفض تجريدهم من فاعليتهم السياسية، واحترامهم لذواتهم. الدفاع عن فبراير دفاع عن المختبر الجمهوري الأول الذي تأسس؛ لامتحان الحس المدنى لدى الشعب. معاينة التطور الكلي للأمة اليمنية قدرتها على التعبير العام، وقد نجحت فيما فشل الساسة في تأمل الحدث، وتمثّل قيمه العليا. 

لا مُلك لفبراير، ولا سلطة تحوز القرار وتوزع الثروة؛ لهذا فالدفاع عنها هو تعبير عن التزام أخلاقي حر، موقف نبيل لا غاية له سوى مناهضة الدوافع المضللة، وكشف الضغائن السياسية والأذهان العبثية. أولئك الذين يحتاجون إلى قليل من احترام الذات؛ كي يتجنبوا اجترار الأحكام الهزلية ضد واحدة من أعظم المحاولات الإصلاحية للاجتماع الإنساني اليمني. 

الخلاصة: 

لعلّ واحدة من مآسي الشعوب المسحوقة، وللدقة مساوئ نخبها المشوشة، هي أنّها تُسهم في تفكيك ذاكرة الأمة، وتمارس عبثا بتاريخها يتماثل مع عبثها بالحاضر. هذا السلوك العدمي يتسبب بحالة من التشظِّي المعنوي داخل الأمم المقهورة.

وما السخرية المتواصلة من حدث يوازي فبراير سوى استمرار للذهنية المتوترة نفسها، تلك التي ترغب برواية وقائع التاريخ كما تمليه انحيازاتها، وليس كما خطته أحلام الشعوب وروحها. 

ليست فبراير مجرد شغب حدث في قرية هامشية في أطراف جغرافيا اليمن، بل واقعة تاريخية امتدت لعام وأكثر، وأحدثت هزة جذرية في مسيرة أمة ظلت مغيِّبة طوال تاريخ دولتها الحديث. 

ويوم ما سيتلاشى آخر عنصر سياسي من العناصر المتحكِّمة بالمشهد، ويصعد جيل بذاكرة صافية، وأذهان متحررة من رواسب الصراع، وأنانية النخب، سيفتح ذاكرة آبائه، ويعيد قراءة ما حدث، حينها سينظرون لفبراير كمحطة تحولية اختمرت بداخلها القيم التحديثية العليا للدولة اليمنية، بل لا أظنّ فبراير تقلّ عظمة لديهم ممّا للثورة السبتمبرية. 

ذلك أن أهمية أي حدث تاريخي ما ليس بما يتركه من عمل مادي، بل بما يحدثه من انقلاب جذري في التفكير، وما يتسبب به من إزاحة لقاموس سياسي ميت، وضخ قوة جديدة في معاني عصرية، كم هو شعبنا بحاجة ملحَّة إليها!!

ذلك البعث المدني للقيم السياسية والحضارية هو الوعد الأرفع لثورة فبراير. أظنها عاصفة خلقت عقلا سياسيا جديدا، بل وأطلقت ملامح رؤية مختلفة للعالم، رؤية ما تزال تتدفق في اللاوعي العميق للشعب، ولسوف تعاود التأثير بطرق متنوِّعة، أشبه بحفر في الينابيع والأغوار البعيدة، وذلك أثر ليس بمقدور تاجر أن يراه، يمكن للمبصرين وحدهم أن يتيقنوا منه.

مقالات

أبو الروتي ( 14 )

كان المعهد العلمي الإسلامي يتبع الشيخ محمد سالم البيحاني -خطيب وإمام مسجد العسقلاني في كريتر- وكان مدير المعهد هو الأردني ناظم البيطار، الرجل الذي كان مجرد ظهوره يثير فينا الرعب.

مقالات

ما العمل؟

عندما قرأ مقالي «ماذا ننتظر كيمنيين؟»، عَقَّبَ الأستاذ المفكر الإسلامي زيد بن علي الوزير بسؤال: «ما الحل؟»، و«ما المخرج؟»؛ وهو «سؤال العارف». وقد وردَ في الأثر: "ما المسئول بِأعلمَ مِنْ السائل".

مقالات

"أيوب طارش".. اسم من ذهب

ما أكثر ما تعرَّض أيوب طارش لعداوات ساذجة من بعض المحسوبين -بهتانا- على رجال الدين، وخطباء المنابر المنفلتة، ليس آخرهم عبد الله العديني، الذي أفسد دينه ودنياه وآخرته بإثارة قضايا هامشية لا تهم أحدا سواه

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.