مقالات

الشاعر الذي صَهَرَ اليمن بأصوات المطربين!! (1-2)

17/03/2022, 14:06:33
المصدر : خاص

لم أجد في تتبعاتي الاستماعية وقراءاتي المتواضعة شاعرا غنائيا في اليمن كتب بمعظم  اللهجات اليمنية بميزة وثقافة ووعي الشاعر أحمد غالب الجابري، فهو الوحيد الذي كسَرَ حلقات ثنائية الشاعر والفنان التي ارتبطت -في تاريخ الأغنية اليمنية- بالتقاربات الوجدانية والثقافية والجغرافية بين كاتب الأغنية والفنان.

كتبتْ ذات وقت عن الثنائية، التي اعتمدت على التقاربات الثقافية واللغوية والنفسية والجغرافية، متتبعاً فيها ثنائية  الشاعر عبدالله عبدالوهاب نعمان (الفضول) والفنان أيوب طارش من زاوية الاحتكار المحبب، الذي لم يزل يلقى قبولاً عاماً في أوساط المستمعين والمهتمين بقضايا الموسيقى والطرب في اليمن.

الثنائيات في اليمن كثيرة ومتنوعة، تشير إليها: ثنائية الشاعر أحمد فضل القٌمندان والفنان فضل محمد اللحجي،  وثنائية الشاعر حسين أبوبكر المحضار والفنان أبوبكر سالم بالفقيه،  وثنائية الشاعر لطفي جعفر أمان والفنان أحمد بن أحمد قاسم، وثنائية الشاعر محمد عبده غانم والفنان خليل محمد خليل، وثنائية الشاعر أحمد عبد ربه العواضي والفنان أحمد السنيدار، وثنائية الشاعر علي بن علي صبرة والفنان علي بن علي الآنسي، وثنائية  الشاعر عمر عبدالله نسير والفنان محمد محسن عطروش، وثنائية الشاعر سلطان الصريمي والفنان عبد الباسط العبسي، وثنائية الشاعر محمد الذهباني والفنان محمد حمود الحارثي، وثنائية  الشاعر محمود الحاج والفنان أحمد فتحي، وثنائية الشاعر مصطفى خضر والفنان محمد عبده زيدي وغيرهم.

هذه الثنائيات استطاعت توصيل الأغنية اليمنية إلى آفاق رحبة تتجاوز البيئات المحلية، التي قامت على أساسها الكثير من أعمدة هذا التشكُّل إلى الجغرافيا الأشمل في كثير من الأوقات، لكنها كثيراً ما كانت تعود -هذه الثنائيات- لتنكفئ على ذاتها وخصوصيتها المحلية، لتصير إرثاً مُتحفيَّاً في تاريخ الأغنية، بسبب تفكك هذه الثنائيات، إما بموت أحد طرفيها أو خصومتها أو عدم تطوّرها.

شُهرة الفنان وحدها من حافظت، في كثير من الأوقات، على ديمومة التواصل والتوصيل، على نحو أنموذج حسين المحضار وأبو بكر سالم والفضول وأيوب.

الشاعر أحمد الجابري غنَّى له العديد من الفنانين اليمنيين شمالاً وجنوباً، ابتداء من أواخر خمسينات القرن الماضي؛ منذ كان طالباً في جامعة القاهرة، وهي الفترة التكوينية ذاتها لشعراء الأغنية المعروفين (سعيد الشيباني وعبدالله سلام ناجي وعبده عثمان محمد) حينما كانوا، هم أيضاً، طلاباً في الجامعات المصرية آنذاك. مغامرات معظم شعراء الأغنية في اليمن عموماً لم تتجاوز الحواضن الثقافية بخصوصيتها اللهجوية، التي ينتمون إليها؛ إذا يندر أن تجد شاعرا من كُتاب الأغنية كتب بخصوصيات لهجوية غير تلك التي تطبّع وتربّى عليها في بيئته المحلية.

وحده الشاعر الجابري حلَّق  بعيداً في فضاءات الجغرافية اليمنية، وكتب باللهجات العدنية، واللحجية، والبدوية، والحضرمية، والصنعانية، والتعزية بخصوصيتها الحجرية.
 وغنّى له الفنانون محمد مرشد ناجي، وأحمد بن أحمد قاسم، وأيوب طارش، وعبد الباسط عبسي، ومحمد سعد عبدالله، ونبيهة عزيم، وطه فارع، وبهجة نعمان، وعصام خليدي، وغيرهم من الفنانين.

نبيهة عزيم أول صوت غناء نسوي ظهر في الجزيرة والخليج عام 1957م، وانطفأ بعد أن تزوجت، وانتقلت إلى الإقامة في جيبوتي في العام 1962م، غنّت للجابري أغنيتها المشهورة "يا ساحري يا هاجري"، التي لحنَّها الفنان أحمد قاسم.. تقول كلماتها:

"يا ساحري يا هاجري/ أنت الذي في خاطري/ لوَّعني الطير في الربُى/ وأنشد بالحان الصِبا/ هاج الحنين في خاطري/ هلاَّ ذكرت قصائدي/ والشوق والأمل الطري/ يهفوا إليك بناظري/ كيف السبيل إلى الوصالْ/ والدمع في عيني ابتهالْ/ يسبي إليك مشاعري/ قد كان حبك مثل ما/ تشدو البلابل في السما/ ما ذنب قلبي العاثري".

في هذه الفترة المبكرة، كانت العلاقة الفنية بين الجابري وأحمد قاسم في أوجّها، فلحّن وغنَّى له العديد من القصائد الذائعة بلهجتي عدن والحجرية، ومنها:
يا مركب البندر والمي والرملة - قصيدتان ظهرتا تالياً في مجموعة الجابري الكاملة (عناقيد ملوّنة 2020) بمقاطع لم تكتمل- لكنّهما ستصيران، مع الوقت، من العناوين البارزة في تجربة الفنان، المؤصّلة للون العدني في الغناء، ومن أجمل أغاني الصباح التي كانت تَشْنِف بها إذاعة عدن أذان مستمعيها بهما طيلة عقود.

"يا مركب البندر/ سنتين وباستناك/ فيبك حبيب الروح/ واقف على مرساك/ يا مركب البندر/ الحلو والأسمر/ الورد يتمخطر/ يسري على خدك/ الله من صدك/ يا مركب البندر/ إن كنت باتهجر قلبي وتنساني/ ياذا الحلا قل لي أيش رجعك ثاني/ يا مركب البندر" – من أغنية يا مركب البندر..

أو:

"المي والرملة شاهد على حبي/ نبله على نبله مغروزة في جنبي/ المي و الرمله/ با ذكِّرك بالبحر والليل في صيره/ أخاف عليك الجسر يفلت من الغيره/ المي والرمله/ راحت ليالي السلا أيام ما كنا/ فيها كئوس الطلا العود والمغني/ المي والرملة"- من أغنية المي والرمله

ليس المكتوب باللهجة العدنية وحده ما يشير إلى المدينة في كلمات هاتين الأغنيتين، وإنما أيضاً ما يُبرز حالها بوصفها مدينة المدن (البندر)، وما يشير إلى معالمها  مثل البحر والرمل والليل في صيرة.. هذا البندر كان وقتها بمثابة حلم اليمنيين في الداخل المعزول للوصول إليه واللوذ به، فجاءت كلمات أغنية "عدن عدن"، التي لحّنها وغنَّاها الفنان أحمد قاسم، وكُتبت باللهجة الحُجرية الصارمة، التي كتب بها في الفترة ذاتها أيضاً الشعراء الشيباني وسلام وعثمان، حتى إن الكثيرين ظنّوا أن كاتب كلمات هذه الأغنية الشاعر سعيد الشيباني:

"عدن عدن يا ريت عدن مسير يوم/ شا سير بو ليله ما شرقد النوم/ اشتقت أنا كم لي سنين وشاصبِر/ من يوم سرح قلبي أنا ما شقدِر/ مرَّ الغمام قالوا عدن قباله/ لو به جناح شاطير أشوف خياله/ طير الحمام تبكي بنار عذابه/ فوق الجبال تسال عن غيابه/ وجه المليح طلعة قمر على الجاح/ يضوي الصباح من طلعته ويرتاح/ محلى السمر بالليل وعود أخضر/ إن قد نسى قل له لمو تأخّر".

في قصيدة "هَرِّبوا جا الليل"، التي غنَّاها الفنان أحمد قاسم، هي التصاق حميم بالمهجل الفلاحي لمنطقة الحجرية، أداها ابن مدينة عدن بإحساس فارط، بمقدار ما بها من صعوبة التراكيب اللهجوية، وإيقاعاتها الصوتية الخاصة:
"والله ما أروِّح إلاَّ قا هو ليل وأعشي واصبح وبن عمي الليل/ فرحتي يا رب  قا ذرينا الحَبْ والجهيش في آب/ هَرِّبوا جا الليل/ المطر يسكب مو يُفيد نصرُب والذئاب تقرُب/ هَرِّبوا جا الليل".

الفنان محمد مرشد ناجي لحَّن وغنَّى في وقت مبكَّر للشاعرين سعيد الشيباني، وعبدالله سلام ناجي، بلهجة ريف تعز الحجرية، أغاني مثل: "يا نجم يا سامر  للشيباني، وقطفت لك كاذي الصباح لسلام"، وفي الوقت ذاته غنَّى قصيدة "أخضر جهيش مليان" للجابري، التي كتبها بالتقنية الكتابية ذاتها لدى الشيباني وعثمان وسلام وخصوصيتها،
تقول كلماتها:

"أخضر جهيش مليان حلا عُديني/ بكَّر غبش شفته الصباح بعيني/ يملي الجرار ريق الندى رحيقه/ يروي ضما من ضاع علُه طريقه/ يا ليتنا ظله شسير خلاله/ عند الطريق شا تخبره لحاله/ قلبي كُرِب وزاد من كُريبه/ كيف يصطبر والناس تشوف حبيبه/ لا هو قدر ولا وصل رسوله/ يعطي الجواب كيف الهوى قولو له".

بالمناسبة صار المرموز العُديني -نسبة إلى منطقة العدين الجميلة والقريبة من تعز- مشغلاً في بعض كتابات الشعراء سعيد الشيباني وعبده عثمان للإشارة إلى الخضرة والجمال، فالأول كتب نصه الذائع "من العدين يالله بريح جلاَّب"، الذي غناه أحمد قاسم:

"من العدين يالله بريح جلاَّب/ وإلاَّ سحاب تندي علوم الأحباب/ الناس رقود وأنا الفراش يجول بي/ قلبي احترق لمُ العذاب يا ربي/ ولا لقيت أهلي ولا محبي/ ريح الصِبا بالله عليك تهبي".

والثاني كتب قصيدة طيا بدر يا عديني"، التي غناها اسكندر ثابت في الفترة ذاتها:
"يا بدر يا عديني/ جننتني وشليت.. شليت نوم عيني/ من الصباح لونك والسحر في عيونك/ مكتوب على الجفوني.. يا بدر يا عديني".

(يتبع)

مقالات

أبو الروتي (3)

(لحظة انطلقت بنا السيارة شعرت بأنّي كبرتُ، ولم أعد طفلا) فيما رحت أتقدّم باتجاه بيت جدي علي إسماعيل، تذكّرت كلام جدتي، وهي تودّعني عند مشارف القرية، وتقول لي:

مقالات

المساندة لكيان الاحتلال والأكفان لفلسطين!

منذ البدء؛ اختارت الكثير من الأنظمة العربية توزيع الأكفان في غزة. كان ذلك يختصر كل شيء: نتنياهو مطلق اليد، يتولى ذبح الفلسطينيين، بينما ستحرص هذه الأنظمة على أن يكون تكفين الضحايا عربياً خالصاً!

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.