مقالات
"الشهادات الأكاديمية" وعصر التفاهة..
أثيرت مؤخرا حملة واسعة تبناها ناشط يمني، يكشف فيه زيف الشهادات الأكاديمية، التي يدعيها كثير من الرموز والشخصيات السياسية والاجتماعية في اليمن، الحملة أخذت زخما كبيرا وبادر الكثير إلى مشاركة معلومات يعرفونها عن طبيعة الحصول على هذه الشهادات، وما إذا كانت ناتجة عن جهد واستحقاق أكاديمي، أم مجرد أوسمة مزيّفة تم الحصول عليها بطريقة أو بأخرى.
كانت الحملة أشبه بحفلة سخرية وإسقاط للصفات والألقاب، التي تسبق أسماء الكثيرين، وبدا أن الرمزية العلمية للشهادات أضحت ديكورا يلمع به الكثير خواءهم الداخلي، أو يتخذونها جسورا لغايات أخرى، والأمر هنا ليس استهدافا للرّتب الأكاديمية، بقدر ما هو غربلة لها من الزيف الذي لحق بها، وكشف الطّرق الملتوية للحصول على الشهادات.
"حملة الشهادات" تفتح تساؤلات كثيرة، حول موثوقية النظام الأكاديمي الحديث، ونظام الحداثة بشكل عام، حيث المنطق المادي تسرّب إلى جميع الحقول النظرية والعملية، وأصبح بإمكان أي رجل أعمال أو سياسي معروف أن يحصل على شهادة يتزيّن بها، دون أن يتوفر على أدنى اشتراطاتها العلمية.
من الملاحظات، التي يخرج بها المرء في تتبعه لهوية الأشخاص الحاملين لشهادات مزوّرة، هي أن الجزء الأكبر منهم يتقلدون مناصب سياسية، هذا الأمر يكشف دوافعهم في الحصول عليها، حيث الشهادة بمثابة تزكية سابقة لمنصب أو هبة لاحقة لحيازة نفوذ أكبر.
المفارقة هي أن الساسة في البلدان المتقدمة لا تُذكر صفاتهم الأكاديمية، ولا رُتبهم العلمية حين ترد أسماؤهم في الإعلام. فاللقب الأكاديمي مكانه هو الحقل العلمي، وليس الوظيفة السياسية، فأنت حين تتقلد منصبا سياسيا يكون معيار التعاطي معك هو عملك وليس صفتك الأكاديمية.
حتى وإن كانت رتبتك العلمية هي سبب حيازتك للمنصب؛ لكنك الآن تمارس وظيفة لتسيّر شؤون الناس ولست في مركز دراسات تنتج بحثا متصلا برتبتك العلمية.
وكأمثلة عابرة على هذا: وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، كوندليزا رايس، لديها درجة الدكتوراة في الفلسفة، لكنك حين تقرأ عنها في أي حدث لن تجد أحدا يشير إلى شهادتها ولا يرد ذكر صفتها الأكاديمية في نشرات الأخبار الأمريكية، كما أن وزير الطاقة الأمريكي الأسبق في إدارة باراك أوباما، ستيفين تشيو، وهو بروفيسور في الفيزياء وحائز على جائزة نوبل؛ لكن صفته هذه لم تكن تسبق اسمه في نشرات الأخبار ومداولات الإعلام.
كل هذا لأن اللقب الأكاديمي ليس هو ما يحدد دوما أداءك السياسي، فأنت هنا خاضع للمساءلة المجتمعية، ولا قيمة لشهادة لا تعكس كفاءة واقعية، بعكس ما تجري عليها الأمور في بلداننا، فالشهادة الأكاديمية - كما يعتقد بعض المسؤولين- تسد جزءا من فشلهم المهني، وتزكّي جدارتهم بالمنصب.
من زاوية أخرى، وبعيدا عن التوظيف السياسي للشهادات الأكاديمية، هناك فكرة أخرى أراها مهمّة، وهي مفصولة عمّا سبق.
حيث الشهادات الأكاديمية الزائفة ليست وحدها مصدر الفضيحة، فإذ كانت الشهادات المزوّرة فضيحة قانونية، فثمة فيضحة شرعية أكبر، فالجزء الأعظم من حملة الرّتب الأكاديمية العليا وبطريقة قانونية، مصابون بعطالة معرفية غريبة، ولا تكاد تجد فارقا كبيرا بينهم وبين ذوي الشهادات المزوّرة.
إنهم يتبعون مسارات علمية محددة، يستكملون إجراءاتهم الأكاديمية، ويقدمون بحوثهم ثم ينالون شهادات الدكتوراة، وتتوقف مسيرتهم هنا، لكأنهم قد حازوا اعترافا نهائيا ب"سدرة منتهى العلم والمعرفة".
إن حصولك على شهادة الدكتوراة يعني أنك صرت مؤهلًا للإنتاج المعرفي في حقل ما، والتدريس والإشراف على البحوث، وكتابة البحث العلمي، دونما حاجة للمراجعة والتدقيق من أحد، غير أن الأمر، واقعيا، لا يسير بهذه الطريقة .
ففي بلدان العالم الثالث، هناك كم كبير ولا بأس به من حملة الشهادات العليا؛ لكننا بالمقابل نعاني من نقص حاد في الباحثين على مختلف المستويات، حيث مجتمعاتنا تعاني تخمةً في مواضيع الدراسة والبحث، وضآلة شديدة في مقاربتها علميا، وبما يسهم في حلها.
نحن إذا أمام مشكلة جوهرية، فالشهادة الأكاديمية ليست شيكا يضمن لك السيطرة على مجالك المعرفي للأبد، بل مجرد اعتراف علمي بإجتيازك خطوات منهجية معينة، يفترض أن تكون مفتتحا لمسار دائم التطلع نحو المعرفة، لكن ما نلاحظه هو أن حملة الشهادات يتحولون مع الزمن إلى مجرد آلات ميكانيكية رتيبة، يتوقف نموهم ويعيدون استجرار المفاهيم نفسها، وبلا أي حيوية متجددة في مسيرتهم.
هذا الزيف القانوني أو المشرعن لدى حملة الشهادات، هو أحد أسوأ اختلالات النّظم الأكاديمية، وهو ليس عطبا في النظام الأكاديمي ذاته، بل مجرد عرض من أعراضه الجانبية لدى حامل الشهادة ذاتها، حيث يكشف حاملها عن طموح ضئيل وتمنيط محدود للمعرفة، لتغدو مجرد ورقة كرتونية تمنحك إحساسا وهميا بالاكتفاء، وينتهي عقلك في إجازة مفتوحة عن كل ما يتصل بعالم الفكرة وقضايا الواقع، ومجالات البحث المتجددة.
إذا ما حاولت عمل إحصائية لحملة الشهادات الأكاديمية، فلن تجد من بينهم -سوى بعدد الأصابع- باحثا ومنتجا ومستمرا في العطاء، حتى وقد نال أرفع شهادة علمية.
نحن نتحدث عن الطبقة العلمية الأولى في البلاد، تعيش خمولا ذهنيّا وكسلا معرفيّا لا يمكن تبريره بأي ظرف، مهما كان الواقع خانقا، لا شيء يفسر هشاشة الإنتاج سوى خلل ذاتي، قصور في البنية والتكوين وفقدان الرابط المعرفي المتحفز على طول الخط.
أخيرا: إن ما هو مستفز أيضا، هو ذلك الإحساس الوهمي الذي يعيشه دكاترة الجامعات، حين يعتقدون أنهم يفقهون كل شيء، وقد قبضوا على خلاصة السرّ الأعظم في كل ما يتعلق بتخصصاتهم.
وبسبب الجمود المعرفي هذا، يتضخهم شعورهم الزائف بالوعي، ويسقطون أفكارهم المحددة سلفا لتفسير كل ما استجد، وبهذا لا يكونون عطالى فحسب، بل ويشكلون خطرا يخنق وعي الأجيال ويزيّفه أحيانا.