مقالات
الفن ككسر للحدود: بين الإبداع والمقدَّس
الفن هو محاولة الإنسان لإضفاء المعنى على الوجود، أو ربّما لاكتشاف أنه بلا معنى. إنه المسافة بين الواقع وما ينبغي أن يكون، بين الحقيقة والحلم، بين الجمال والفوضى.
في جوهره، لا يسعى الفن فقط إلى تمثيل العالم، بل إلى إعادة خلقه وفق رؤية تتجاوز حدود المألوف. إنه لغة غير منطوقة، تنساب في الأشكال والألوان والأصوات، حيث يصبح الحجر ذاكرة، واللون انفعالًا، والموسيقى صدًى لما لا يُقال.
قد يكون الفن مقاومة ضد العدَم، وقد يكون تسليمًا له. يقف بين النّور والظّل، يغازل الفوضى، ويعيد تشكيلها، يمنح البشري طابعًا مقدّسًا، أو يسحب القداسة من كل شيء. إنه أشبه برحلة دائمة بين لحظة الخلق الأولى ونقطة الانهيار الأخيرة، بين السمو والانحطاط، بين الإنسان وإمكانياته غير المكتشفة.
نيتشه رأى في الفن قوة موازية للدِّين، لكنَّه قوة لا تفرض المطلق، بل تحتفي بالحياة كما هي، بحقيقتها المتغيِّرة، بانتصاراتها وانكساراتها.
اعتبر ديونيسوس، إله الخمر والجنون والفوضى، الوجه الحقيقي للفنان، حيث يتجلَّى الإبداع في أسمى صوره عبر تجاوز المنطق والانغماس في تجربة تتحدَّى المعايير الثابتة.
الفنّ والدِّين كلاهما يسعى إلى ما وراء الظاهر، لكن بأدوات مختلفة؛ الدِّين يقدِّم إجابات، بينما الفن يطرح الأسئلة، الدِّين يبني معابد للروح، بينما يهدمها الفن ليعيد بناءها من جديد، وفق رؤية لا تخضع ليقين، بل تبحث عنه بين شقوق الشكوك.
إذا كان أفلاطون قد طرد الشعراء من مدينته الفاضلة لأنهم يحاكون المحاكاة، فإن هيغل رأى أن الفن، رغم عظمته، لا يصل إلى الحقيقة المطلقة كما يفعل الدِّين والفلسفة؛ لأنه يظل مرتبطًا بالمحسوس. لكنه، في الوقت ذاته، اعتبر أن الفن لحظة ضرورية في تطوّر الروح المطلقة، مرحلة تجسِّد فيها الفكرة قبل أن تتحرر منها.
لطالما كان الفن حاضنًا للمقدَّس، لكنّه كان أيضًا أداة للخروج عنه. العمارة القوطية، بارتفاعها الشاهق، لم تكن مجرد بناء، بل محاولة لجعل الحجر يصلي. الأيقونات البيزنطية لم تكن صورًا، بل نوافذ على عالم غير منظور.
وفي المقابل، عندما رسم كارافاجيو القديسين بملامح فلاحين متعبين، كان يعلن أن الإله ليس في السماء فقط، بل في العابرين على الأرصفة، في الوجوه المتربة، في الشكوك التي تراود المؤمن أكثر من يقينه. الفن هنا لم يكن تابعًا للدِّين، بل كان يمتحنه، يختبر مدى صلابته أمام هشاشة الإنسان.
لكن الفن لم يكن في مواجهة الدِّين فقط، بل أيضًا في صراع مستمر مع السلطة؛ لأنها بطبيعتها تخشى ما لا تستطيع السيطرة عليه. كان الفن دائمًا قوة تهدد الأنظمة؛ لأنه يتحدث بلغة تتجاوز الأوامر والقوانين، يخاطب الوجدان بدلًا من العقل الجمعي، يحرِّض على الرؤية بدلاً من الطاعة. في الأنظمة الاستبدادية، يصبح الفنان عدوًا محتملًا، وتتحول لوحاته إلى بيانات، وكلماته إلى خطر يجب إسكاته. من سقراط الذي عاقبته الدولة؛ لأنه "أفسد الشباب"، إلى بيكاسو الذي رسم "غرنيكا" كصفعة في وجه الحرب، إلى كافكا الذي حوّل الاغتراب إلى كابوس وجودي، كان الفن دائمًا أداة لمساءلة السلطة وكشف زيفها.
وإذا كان الفن قد تحدَّى السلطة، فإنه أيضًا اقترب من العِلم، وإن كان على طريقته الخاصة. بينما يحاول العِلم فهم العَالم من خلال التحليل والتجربة، فإن الفن يحاول استشعاره، الإمساك بجوهره، تقديمه بصورة لا يمكن للمختبرات قياسها. دافنشي لم يكن مجرد فنان، بل كان عالمًا في جسد رسام، يبحث عن النسبة الذهبية كما يبحث الفيزيائي عن قوانين الطبيعة. سلفادور دالي لم يكن رسامًا عبثيًا، بل كان يستوحي من نظريات آينشتاين في النسبية ليجعل الزمن يذوب في لوحاته.
في العمق، كلاهما -الفن والعلم- يحاولان فهم الإنسان والعالم، لكن الأول يفعل ذلك عبر الحلم، بينما الثاني عبر المعادلة.
في لحظات معيَّنة، أصبح الفن موضع ريبة؛ لأن فيه قوة لا تخضع، فيه قدرة على صناعة الوهم بمهارة تجعل الوهم أكثر صدقًا من الحقيقة.
حينما كسر مارسيل دوشامب مفهوم الفن عبر وضع مبولة في معرض فني، كان يعيد طرح سؤال سقراطي: ما الفن؟ وما المقدَّس فيه؟ هل هو في الشيء ذاته، أم في الطريقة التي نراه بها؟ هنا، كما في الدِّين، يصبح الإيمان جوهريًا، لكن الإيمان في الفن ليس بإله، بل بفكرة، برؤية، بقدرة الإنسان على تجاوز ما يُفرض عليه.
لم يعد الفن اليوم مجرد وسيط جمالي، بل أصبح أداة للبحث، وسيلة للتساؤل، طقسًا حديثًا لا يحتاج إلى معابد، بل إلى لحظة تأمّل أمام لوحة، أو تماهٍ مع لحن، أو انغماس في سرد يفتح مساحات غير مأهولة داخل الذَّات. قد يكون الفن هو الدِّين الجديد، لكنه دِين بلا عقائد، بلا خطايا، بلا خلاص نهائي. إنه انفتاح دائم على الاحتمال، احتفاءٌ بالمعنى، أو اعترافٌ صامت بأنه، ربَّما، لا يوجد معنى على الإطلاق.