مقالات

القليل من سيرة مقهى متكاثر!

09/09/2023, 12:08:33

في أواخر العام 1978، قرر شابان يافعان أن يستقلا بعملهما الخاص، بعد سنوات طويلة من العمل مع ملاك مقاهي ومطاعم في قلب التحرير بصنعاء، اكتسبا فيها من الخبرة ما يؤهلهما لفتح "مقهاية" تخصهما.. سائق من أهل ذمار كانا يعرفانه دلهما على موضع حيوي يتقاطع فيه شارع الزبيري مع الخط الدائري الغربي، الذي يوصل إلى الجامعة بمبناها القديم في حي القاع، وما هو تحت الإنشاء بالقرب من سواد حنش (نهاية الطريق الدائري شمالاً).. كان المكان وقتها يقع في الأطراف الغربية للمدينة الذي بدأ العمران يغزوها رويدا رويدا، بعد أن كانت محصورة فقط بالمدينة القديمة، والأحياء والشوارع، التي نشأت على حوافها (التحرير وشارع علي عبد المغني وجزء من شارع الزبيري)، في العمارة الحجرية شبه الحديثة بأفاريزها الإسمنتية المستجلبة من نمط العمارة الهندية بعدن، التي تطل على الشارعين، اختارا الفتحة المجاورة لفرع شركة كنتاكي للوجبات السريعة، التي تختص أساساً بالدجاج المقلي، ويقع مقرها في مدينة لويفيل بولاية كنتاكي، وكانت شركة كويتية وبعمالة مصرية هي من تدير هذا المحل بماركته العالمية، وكان مقصداً للطبقة المخملية والدبلوماسيين الأجانب منذ أواسط السبعينات، حين كانت المطاعم الحديثة في المدينة تُعد بأصابع اليد الواحدة.

المقهي، الذي افتتح مع قيام سلطة علي عبدالله صالح، اطلق عليه الشريكان في البداية مقهى السلام، قبل أن يستبدلاه باسم تاريخي هو "الدملؤة"، ومستجلب من أحد مسميات حصن "لمنصورة" التاريخي في منطقة الصلو بريف تعز الجنوبي، التي ينحدر منها الشريكان، الذي ااتخذه العديد من الحكام كموقع عسكري مرتفع ومتقدم؛ ومنهم الإمام المنصور.  

المقهى اختص بتقديم الوجبات الشعبية من مخبوزات الخمير والطاوة والشاهي والسندويشات الخفيفة والبسكويت والكيك، لم يزل حتى الآن يقدم الوجبات ذاتها، ماعدا البسكويت والكيك، وبالجودة ذاتها، لكنه صار شاهدا على الانحدار المريع لقيمة العملة، فبعد أن كان الكوب الشاهي الملبن في تلك الفترة يساوي ربع ريال، صار سعره اليوم مائة وخمسين ريالا، والسندويتش الجبن، الذي كان سعره ريالت ونصف صار سعره اليوم مئتي ريال.

 يقول أحد اليافعين وقتها – صار اليوم بعامه الخامس والستين-: "جئنا إلى هذه المنطقة ولم تزل عماراتها تعد بالأصابع فقط، وآخر حدودها حي المجمع الصناعي، الذي اختط في عهد الرئيس الحمدي ليكون مجمعاً للورش والمعامل الصغيرة، وصار اليوم مربعاً مكتظاً  بين أربعة شوارع (الدائري ونواكشط وبغداد والزبيري).

كان الشارع الرئيس (الزبيري) حينها خطا إسفلتياً وحيداً، وكان ولم يزل يشكل الامتداد الخاص بالطريق التاريخي الذي شقه الصينيون من ميناء الحديدة إلى باب اليمن بين أواخر خمسينات ومطلع ستينات القرن الماضي، ومع أول موسم تشجير منتصف السبعينات زرعت على جنباته (من تقاطع الشارعين إلى المشفى الجمهوري أشجار الكافور، لكنها قطعت مع توسيع الشارع في خطوط على الاتجاهين) (1).


كان المكان (أي تقاطع الشارعين)،  أول محطة تتوقف فيها باصات النقل الجماعي القادمة من الحديدة (ظهراَ ومساء)، وأسقط عليه اللسان الشعبي اسم "جولة كنتاكي"، لهذا صارت الجولة عنوانا بارزا، يتجمع فيها أقارب الأسر المنتظر وصولها في الرحلات، وسائقو سيارات الأجرة  والبائعون الجائلون قبل موعد وصول الباصات، فتنشط الحركة في المكان، وكان لقربه من كليات الجامعة القديمة في حي القاع القريب أثره أيضاً في أن يكون ملتقى للطلاب القادمين من محافظات أخرى، حين كانت جامعة صنعاء هي الوحيدة في الجمهورية العربية اليمنية، وإن طلاباً من قرى مالكي المقهى عملوا  بها حتى تخرجهم، وصار بعضهم اليوم أسماء معروفة في الحياة العامة,

الميول السياسية اليسارية لمالكي المقهى، وتردد الكثير من المتحزبين على المقهى وضعت المكان تحت مجهر أجهزة الأمن  إبان العمل السري طيلة فترة الثمانينات، وإن مداهمات ليلية عديدة  للمكان بحثاً عن ناشطين واعتقال بعضهم، وفي واحدة منها اعتقل أحد الشريكين (مطهر) (2)، أما الآخر (عبد الكريم) فقد تخفي ثم غادر إلى المخا ليعود بعد أشهر طويلة، وبعد أن هدأت الحالة.

 التحولات السياسية المتسارعة منذ أواخر الثمانينات ألقت بظلالها على الحياة في المقهى، فصار ارتيادها من قبل الحزبيين يتزايد بدون خوف، ولم تعد تشاهد السيارات غير المرقمة بعاكساتها الزجاجة السوداء..
الطاولات الخشبية وكراسيها على الرصيف الضيق لم تعد تستوعب الرواد الكثر، فاهتدى الشريكان إلى استبدالها بمقاعد بلاستيكية سطحية يمكنها شغر مساحات أقل على الرصيف والفضاءات الصغيرة أمام المحلات الأخرى، وهي عادة ما تكون مستهدفة  في غارات عمال مكتب البلدية، ولا يتم الإفراج عنها إلا بعد مفاوضات طويلة.

خلال عشرين عاما، تحول التقاطع (جولة كننتاكي) إلى مكان مزدحم جداً بسبب نشاط العمران، وتحول المربع إلى مركز خدمات ناشطة (بنوك ومؤسسات ومستشفى وعيادات)، واستدعى الاختناق المروري الكبير طيلة أوقات النهار إلى عمل  كوبرى يسمح بمرور المركبات في اتجاهي شارع الزبيرى من الأعلى، ومرور المركبات في اتجاهي الدائري من تحت الجسر إلى جانب منافذ عبور أخرى في الاتجاهين بمحاذاته، الذي صار اسمه الشعبي جسر كنتاكي.


(*) من نصوص يعدها الكاتب عن المقهى في اليمن (من النبذ إلى التمدن الصريح)
___________________
(1) الكافور Eucalyptus globulus L موطنها الأصلي قارة أستراليا، وهي من أشجار الزينة التي تستخدم في تزيين الشوارع، وتستخدم فروع وسيقان  الشجرة في صناعة الأثاث، وفي صناعة الورق والسليولوز، بينما الزيوت الطيارة المستخرجة من الأوراق والأزهار   تستخدم لعلاج أمراض البرد، وطرد الغازات، وعلاج السعال والربو، وفي علاج الروماتيزم وآلام المفاصل... وغيرها من المشاكل الصحية، وبسبب وجود الزيوت الطيارة في جميع أجزاء النبات فإنه لا يستخدم كحطب. ( ما كتبه لي د أحمد خالد الهدواني بعد استفساري عن الشجرة).
(2) المؤكد في الثلث الأول من فبراير 1983، حسب إفادة الصديق فوزي العريقي.

مقالات

أبو الروتي ( 14 )

كان المعهد العلمي الإسلامي يتبع الشيخ محمد سالم البيحاني -خطيب وإمام مسجد العسقلاني في كريتر- وكان مدير المعهد هو الأردني ناظم البيطار، الرجل الذي كان مجرد ظهوره يثير فينا الرعب.

مقالات

ما العمل؟

عندما قرأ مقالي «ماذا ننتظر كيمنيين؟»، عَقَّبَ الأستاذ المفكر الإسلامي زيد بن علي الوزير بسؤال: «ما الحل؟»، و«ما المخرج؟»؛ وهو «سؤال العارف». وقد وردَ في الأثر: "ما المسئول بِأعلمَ مِنْ السائل".

مقالات

"أيوب طارش".. اسم من ذهب

ما أكثر ما تعرَّض أيوب طارش لعداوات ساذجة من بعض المحسوبين -بهتانا- على رجال الدين، وخطباء المنابر المنفلتة، ليس آخرهم عبد الله العديني، الذي أفسد دينه ودنياه وآخرته بإثارة قضايا هامشية لا تهم أحدا سواه

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.