مقالات
اللغة الميّتة وعطالة الذهن البشري..
أشعر بالنفور من كل تعبير ثابت ومغلق. "حسبنا الله ونعم الوكي"، "لا حول ولا قوة إلا بالله"، "رُبّ ضارة نافعة"... تبدو لي هذه التعابير الجاهزة بمثابة فخ نعيد تكراره ولا نشعر بخطورته على الذهن البشري.
وفي أذهان الناس عشرات ومئات وآلاف التعابير الجاهزة، دِينية واجتماعية، مقولات وأمثال وخلاصات في كل ميادين العلوم.
"الأوضاع على صفيح ساخن"، "البلاد على كف عفريت"، "يصطاد في الماء العكر"، وهكذا وهكذا، عبارات كثيرة، كلّما وجدتها في مقالة أو قصة أو قصيدة، أتوقف عن القراءة، وينتابني إحساس أن الكاتب يعاني من صدأ في الذاكرة والخيال، ذلك أن كل كتابة تستجر جملًا جاهزة، مشكوك في فاعلية الذهن المُنجِز لها.
حتى لو كانت هذه العبارات تتضمن أفكاراً صحيحة ومصاغة بلغة كثيفة، إلا أن تحوّلها لما يشبه التعابير المحنّطة أفقدها أي دلالة حيّة وصارت بمثابة جُمل تداولية فارغة من المعنى، أو لنقُل "دالة بلا مدلول".
هنا تكمن عبثية اللغة الثابتة والمغلقة، إنها تواصل سريانها في الأذهان البشرية حتى وقد صارت جثة هامدة، ومعها تتسبب في إماتة جزء من الذهن دون انتباه.
الكتابة بمعناها الأصيل: ثورة، سلوك نشط، فعل خالق للمعنى، محاولة دائمة لتحريك الدلالة، إعادة خلق علاقات جديدة بين الكلمات بهدف الوصول إلى معنى مبتكر، وعليه فكل كتابة تذعن للعبارات الجاهزة تفقد مبررها؛ تغدو فعلاً فائضاً عن الحاجة، تواصل بلا قدرة على الاتصال.
فما جدوى الكتابة إذاً؟ إذا كنت ستكتب كي تعيد التذكير بتلك الجُمل المعروفة، فأنت لا تسهم في إفاقة الذهن، بقدر ما تنجح في خصاء اللغة، تعطيل قدرتها على التعبير، وبالضرورة تعطيل قدرة الناس على التفكير بشكل جديد، والعجز عن خلق لغة قادرة على تحريك أدمغتهم.
هناك فرق جوهري بين الكلام العادي، اللغة اليومية الباهتة والرتيبة والمكررة، وهو عادة يحدث بطريقة عفوية وربّما لا واعية أو لا تحتاج إلى تركيز ذهني خاص، وبين الكلام الواعي، اللغة النشطة والعالية، هذا النوع الأخير هو لغة "الإبداع"، وتلك لغة ثرية وقادرة على قدح شرارة الذهن وتحريك الوعي البشري نحو فهم جديد للذّات والعالم.
ولأننا مررنا قبل أيام ب#اليوم_العالمي_للغة _العربية، فإن أكبر خدمة يمكننا تقديمها لهذه اللغة هي أن نحررها من لعنة التعابير الجاهزة، أن نجتهد؛ كي نصيغ بها جملة رفيعة، صورة بلاغية ذكية، تعبيرا مبتكرا وبيتا شعريا خالدا.
تلك هي الطريقة الوحيدة؛ كي نثري اللغة، ونحتفي بها.
اللغة ليست صنما نعبده، ولا مخلوق مقدّس ومحنّط لا يصح الاقتراب من بنيانه. اللغة هي أداة مختلطة بالذّات، وشيجة بينك وبين العالم، وكلّما كانت علاقتك بها عامرة بالحياة والتجدد، تمكّنت من اختراق العالم، واستكشافه بطريقة أفضل، وبما يحسّن وضعك ووجودك بشكل عام.
حين تعتني باللغة فأنت تعتني بذاتك الساكنة في اللغة، فاللغة تسكننا ونسكنها، وكما يُقال: "نصف المرء كيانه ونصفه لغته"، وهذا قول مأثور؛ لكنه ليس جامدا بالضرورة، فليست مشكلتنا مع التعابير المكثّفة والمتوارثة؛ كونها قديمة، بل مع تحوّلها إلى صيغ و'اكشيليهات' تستخدم دوماً لفهم قضايا متجددة، تجارب جديدة، متجاوزةً تلك المعاني الجاهزة. مشكلتنا بالضبط، حين يكون المعنى قاصراً عن فهم القضية، حين تكون العبارة ميّتة والحدث جديد.
هنا تكمن الحاجة إلى قول مبتكر، يوسّع من قدرتنا على فهم واقعنا، بدلا من استجرارنا التعابير المستهلكة نفسها.
في رؤيته الفلسفية لعلاقة اللغة بالوجود، يضع "هايدغر" اللغة الشعرية في أرقى مقام، ويعتبرها الوسيلة الوحيدة القادرة على تمثيل العالم.
وله عبارة شهيرة: "ما يبقى يؤسسه الشعراء"، فالشعراء لديه هم خالقو العالم.
إنهم الساهرون على تخوم المطلق واللامرئي، الذين يجيدون كشف المحجوب، يهيّئون الأرض لولادة المعنى، وبدونهم يتحوّل الوجود إلى قطعة معتمة، ويفقد الإنسان القدرة على رؤية العالم بشكل جديد.
فاللغة -بحسب هايدغر- لا تقتصر وظيفتها على قول العالم الواقعي كما هو أمامنا، بل تسهم في خلقه.
وتلك -كما أسلفنا- وظيفة الكتابة الأصلية، إعادة خلق العالم بشكل متواصل، إزاحة الغبار وتمزيق الحجب، حفر دائم نحو أغوار بعيدة، توسيع حدود الرؤية والترحال صوب آفاق لم تكتشف بعد، وأرضٍ بكر لم يطأها وعي الإنسان.
وهذا كله لا يتحقق باللغة الثابتة والصياغات الميّتة.
الخلاصة: ما الذي يتبقّى من وظائف الكتابة حين ينتهج الكاتب تلك الطرق الميّتة في الكلام، وكيف يمكن إحياء وعي بلغة هي نفسها عاجزة عن الحركة، ثم ما هو خلاصة العقل البشري المبدع، ما هو جوهر الفهم المتجدد، كيف يتولّد..؟ إنه وليد مباشر للفكرة حين تتجسّد في عبارة حيّة ولافتة.
وعي الناس: هو تلك العبارات الحاضرة في أذهانهم حين يفكرون بموضوع معيّن، الطريقة التي يفكّر بها الناس. غير أن عقل ممتلئ بكومة تعبيرات ثابتة لن يستطيع أن يأتي بنتيجة مختلفة، ولا حتى بشعور نشط. اللغة المكررة مسؤولة عن تبلّد الأذهان، وخلق جيل من البشر المعطوبين والعاجزين عن إحداث أي هزّة في أعماقهم، ولا حتى إضفاء أحاسيس جديدة على تلك المواضيع المألوفة.
وتلك كارثة اللغة حين تغدو رهينة للتعابير الجاهزة، وتفقد القدرة على إقامة علاقة جديدة بين الإنسان وعالمه، الخاص والعام، بين ذاته وموضوعه، داخله وخارجه..