مقالات
المتاجرة بالهدنة..
يريد الحوثي أن يكسب بالهدنة ما كان يطمح لتحقيقه بالحرب. دوافعه للسلام هي نفسها دوافعه للحرب، له منطلقاته الذاتية، ولا يكترث لأي التزامات أخرى.
إنه متحلل من كل شيء، وهذا أمر لا يبعث الخجل لديه؛ بل مصدر تفاخره.
لا توجد جماعة تفقدك القدرة على تخيّل المدى الذي يمكن أن يذهب إليه عنادها وميوعة سلوكها؛ كجماعة الحوثي.
نحن أمام جماعة تبسط سيطرتها على جزء من الأرض وقطاع عريض من المجتمع، وتستخدمه كغرض للتربّح فحسب. هذه بديهية معروفة ومكررة.
لكن ما يثير دهشتك كل مرّة أنها تقدِّم سلوكها هذا بصيغة أخلاقية متناقضة تماما مع جوهرها الواقعي. تفعل ذلك باصرار عجيب، مؤكدة أن غايتها هو تخفيف معاناة الشعب. أين يحدث هذا، ومتى وكيف..؟ لا تدري.
هكذا تردد كلاما مفصولا تماما عن سلوكها، وتريدك أن تؤمن بما تقوله، ولو كنت تكاد تفقد عقلك، وأنت تحاول الربط بين ما تقوله هذه الجماعة، وما تفعله.
يرفض الحوثي الهدنة ولعابه يسيل على مزاياها، ومزاياها بالنسبة له ما يضاعف ثروته ويمنحه حرية أكبر في مضاعفة مواردة وقدرته على توسعة نشاطاته، وتمويل أهدافه العدائية، وإحكام قبضته على الشعب.
إنه لا ينظر لشيء سوى نفسه، هو المعيار المطلق لمفاهيم الربح والخسارة. حول هذا يدور، ولا شيء عدا ذلك يقلقه أو يمنحه مزيدا من الأمان.
بات سلوك الجماعة الحوثية مكشوفا لدرجة مفهومة للجميع، لكن انكشافه لا يعني أن الجميع بات محيطا بدرجة البشاعة التي يمثلها هذا السلوك. لقد صار كل ما يقوم به بديهيا جدا، وهذه هي المصيبة. أن يغدو هذا الصلف والوقاحة الواثقة من نفسها أمرا بديهيا، فهو موضوع صادم بقدر بداهته. إلى أين يمكن أن تقودنا هذه الجماعة وهي متمسكة بهذا النهج الشاذ واللعين..؟
ما هو صادم أن الحوثي لم يبقِ لك أي أسس صالحة للنقاش عليها معه، وكأرضية يمكنها أن تفضي لحل بينك وبينه. هو لا يتصرف كجماعة لديها مخاوف وأطماع يرغب بتحقيقها وبشكل يمكن التعايش معه تحت إطار عام. بل يصرّ على تقديم نفسه كمحور مركزي يمثل بلادا وشعبا، وعليك أن تقر بحقه هذا. ما لم فهو جاهز للمضي بعناده للنهاية. وما الذي تملكه في هذه الحالة لكسر هذا النمط المتعجرف من التفاوض والخطاب..؟
لماذا يرفض الحوثي..؟ لأنه غير مسؤول أخلاقيا. هذا جواب عمومي، لكنه جوهر المشكلة. نحن أمام عصابة لا تملك أي قابلية للاحتكام المنطقي لشيء. أدمنت تقويض كل معايير الأخلاق، ونشأت كجماعة مضادة لكل منطق سياسي وقانوني، ومن هذه الصفة تستمد قوتها في الرفض. من إيمانها بأن كل مكاسبها تحققت بسبب جموحها هذا، وعليه هي متمسكة بنهجها في التمنع باعتباره الشفرة التي تمكِّنها من الوصول إلى كل ما تطمح له.
مأزقنا مع هذه الجماعة أن العالم فاقد لأي قدرة على ترويضها، لا يملك ما يخضعها به على الصعيد المعنوي، وليس لديه أي أدوات لموازنة سلوكه ضدها بين الضغط والاحتواء. فمنذ سنوات يتخذ التفاوض مع الجماعة طابع الاستجداء، ومناقشة كل ما تطلبه الجماعة، وهو ما يجعلك محكوما بشروطها، ولا تملك إلا أن تسلم لها بما تطلب أو ترفضه، وتمضي للشجب، والشجب نغمة مملة وباعثة للرثاء.
الخلاصة: لا يرفض الحوثي الهدنة لأنه قوي، ولن يذعن حتى وهو ضعيف. فسلوكه هو ذاته في الحالتين، إن هذا ما هو عليه، وتلك تركيبته النفسية وجوهر طبيعته. ولذلك لا جدوى من أي تعويل على إمكانية ترويضه. فكل طرق التفاهم بين البشر منعدمة الأثر مع هذه الجماعة، وليس هذا نوع من المبالغة، وتصوير الأمر كاستحالة بغرض التخلص من محاولة فهمها. بل هذا هو ما يفصح عنه سلوكها لثماني سنوات، ولا أظننا نحتاج مساحة أكبر للتشكيك بطبيعة الجماعة أو طبيعة فهمنا لها، والبحث عن تفسيرات أخرى نتّهم فيه عقولنا بالعجز عن تفكيك سلوك الجماعة. بقدر ما نحتاج إلى التوقف مع أنفسنا والبحث عن خيارات أخرى ذات طبيعة جذرية، نحتاج إلى تفعيل أدوات القوة، كخيار أخير لتعديل هذا المسار المختل وتحرير مصير الشعب من سطوة جماعة عمياء، لا عقل لها، ولا مشترك بينك وبينها، سوى أنهم بشر وأنك بحاجة إلى فرض واقع يتسع لك ولهم مهما كان مريرا.
نقطة ضعفنا هو أننا أصبحنا نولي خيار التفاوض مع الحوثي اهتماما أكثر مما نواصل الاشتغال لتفعيل خيار المواجهة معه.
ضعفنا ليس في هشاشة قدرتنا على المواجهة، بل في ارتخاء إيماننا بها وبرود إرادة الحرب، مع كونها الوسيلة الوحيدة لخلخلة هذا الوضع المسدود. حاربنا ثماني سنوات، ولن يكون صعبا علينا الاحتشاد، ولو بخطة عسكرية لسنتين، نعيد فيها الدفع بخيار القوة بمثل زخم المعركة في بدايتها. سنتان كفيلة بصناعة فارق وحماية المستقبل من أي صيغ حلول مختلة مع هذه الجماعة، وهي ما تزال بنفس سلوكها المتعجرف هذا. حتى لو توصلنا معها إلى حل الآن، فكل شيء يقول إن الحل سيكون نوعا من التواطؤ اللحظي سندفع ثمنه مستقبلا، إذ لا يمكن أن يفضي هذا السلوك إلى مصير صالح للأجيال مهما تقبّلناه على مضص.
وعليه فالهدنة، حتى لو تمت، فهي خطوة جزئية نحو سلام مجهول، إنه خيار يقوّض مكاسبك الأخلاقية في حربك ضد هذه الجماعة، ويكشف هوانك بأكثر مما يفصح عن رصانتك.
إنها لرصانة مدّثرة بالعجز، وتكشف عن قلة حيلة. وليس في الأمر حكمة قط.