مقالات
الوحدة أنجزها اليمنيون جميعاً وأخرجها البيض وحده
يخبرنا التاريخ أن الإنسان اليمني لم يخضع، في الماضي، كأصل ثابت لوجود سلطة سياسية واحدة فرضت سيادتها على كامل التراب اليمني، وإن حدث ذلك فهو من قبيل الاستثناء، كما أن الجغرافية السياسية هي الأخرى تشهد بقيام دويلات وسلطنات ومشيخيات حكمت وتصارعت وتقاتلت في وقت واحد على حكم هذه الأرض، التي تحمل اسم اليمن، منذ فجر التاريخ.
وإذا كانت الجمهورية العربية اليمنية وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية هما الأقل عددا في مسألة اقتسام حكم اليمن بين دولتين لا ثالث لهما، فإن يوم الـ22 من مايو 1990م هو اليوم العظيم، الذي تحقق فيها (بطريقة سليمة وتوافق سياسي) قيام دولة واحدة، وعلم واحد، وسلطة واحدة فرضت سيادتها الوطنية على كامل التراب الوطني في اليمن.
مشروع الـ22 من مايو 1990م، هو المشروع السياسي، الذي لم تشهده اليمن من قِبل رغم إيمان اليمنيين بأنهم شعب واحد منذ أن وجدوا على هذه الأرض، كما أن الـ22 من مايو هو اليوم الذي اجتمع فيه شتات الجغرافية السياسية، وانتصر فيه التاريخ كصيرورة سياسية واجتماعية، وأكثر من ذلك انسجم فيه جمع شتات الجغرافية السياسية، والانتصار التاريخي مع مفهوم الهوية والانتماء الوطني الواحد للمكون الإنساني في اليمن.
وإذا كان الـ22 من مايو هو اليوم الذي كان وسيظل خالدا لليمنيين، فإن أهمية خلوده بقدر ما تأتي من كون ماضي التاريخ والجغرافية السياسية اليمنية خاليا من حدثها الوطني، بقدر ما تعني في حسابات المستقبل ومتطلباته أن الـ22 من مايو هو الحدث التاريخي الذي كان كفيلاً بأن يجعل اليمنيين قادرين -بمشروع الوحدة- على تحويل بلادهم إلى وطن، لولا أن سلطة العقل السياسي التاريخي في صنعاء تمكنت من ضرب مسار الحدث التاريخي "عسكرياً"، ومن ثم الانقلاب على المرجعيات السياسية للوحدة اليمنية في حرب صيف 94.
صحيح أن التاريخ يخبرنا بوجود سلطات يمنية حكمت معظم تراب اليمن بقوة السلاح والغلبة، إلا أن الوحدة اليمنية (وهذا ما يميزها) قد تحققت سلمياً بعد ثورة سبتمبر وأكتوبر، وبعد نشأة العقل السياسي الحزبي، الذي شكل حالة تجاوز للعقل السياسي التاريخي، لا سيما وهو الذي تعاطى ثقافياً، وأصل معرفياً وسياسياً لمفهوم الجمهورية والديمقراطية كنظام سياسي، وكذلك للفكرة الوطنية التي شكلت إطارا سياسياً جامعاً لثقافة الهوية والانتماء اليمني للمكون الإنساني في الشمال والجنوب، الأمر الذي جعل الوحدة اليمنية حالة وجدانية لكل اليمنيين.
ناهيك عن تحولها بفعل العقل السياسي الحزبي إلى مسألة نضاليه لدى الشعب والمكونات والنخب السياسية، التي كافحت منذ سبتمبر وأكتوبر، وقدمت مشاريع ورؤى سياسية من أجل تحقيق الوحدة اليمنية بين شمال اليمن وجنوبة، وفي مقدمتها الحزب الاشتراكي اليمني، الذي نشأ على أساس اندماج مكونات سياسية أتت من شمال اليمن وجنوبه، ما يعني أن توحيد فصائل الشمال والجنوب تحت مسمى "الحزب الاشتراكي" كان ناتجت عن إيمان قاطع بوحدة الأرض والإنسان والتاريخ في اليمن.
لكن هذا الإيمان القطعي والنضال الوحدوي، وحتى المشاريع والرؤى الوحدوية، ناهيك عن تأخير تحقيق الوحدة اليمنية عملياً وواقعيا منذ سبتمبر وأكتوبر حتى عام 1990 في ظل تباين فلسفة النظامين السياسيين السابقين وصراعهما، كل ذلك كان يعني أن تحقيق الوحدة اليمنية كدولة واحدة حاكمة في اليمن بحاجة إلى قائد سياسي قادر على أن يلعب دور الفرد في صناعة التاريخ.
وعطفاً على ذلك، فقد كان السيد على سالم البيض هو السياسي الشجاع الذي لعب دور الفرد في صناعة تاريخ الوحدة اليمنية، والذي أخراج (من دخل نفق جلدمور) دولة الوحدة اليمنية إلى حيز الوجود في اتفاق عدن 1989م.
مفهوم الوحدة اليمنية، بمعنى إلغاء التشطير أو الحدود السياسية أو إعادة اللحمة اليمنية بين شمال اليمن وجنوبه -على حد وصف المناضل ياسر عرفات- لم يكن يوما من الأيام محل خلاف أو اعتراض، لكن الخلاف كان حول طبيعة دولة الوحدة اليمنية التي سوف تحكم اليمنيين بعد الوحدة، وهو خلاف تعكسه فلسفة النظامين وطموحهما السياسي، وحتى المشاريع المتباينة المقدمة من قبلهما منذ 1972 وحتى 1989م.
في 1989، كاد اتفاق عدن، الذي أنشأ دولة الوحدة اليمنية، أن يفشل بعد أن تمسك وفد الشمال ووفد الجنوب بمقترحاتهما المقدمة.
يذكر الأستاذ علي الصراري في كتابه "الحزب الاشتراكي والوحدة اليمنية" أن أحد أعضاء وفد الشمال اقترح على زملائه المغادرة والتوجه إلى تعز لتناول القات هناك.
وهذا يعني أن الطرفين كانوا قد قدموا كل ما لديهم، ووصلوا إلى طريق مسدود، ساد -مع هكذا حال- اليائس والإحباط بخصوص عدم القدرة على إنجاز اتفاقية تتعلق بقيام دولة الوحدة في الـ30 من نوفمبر 1989م.
وحتى لا تأخذ الزيارة طابع الفشل النهائي، كما يقول مؤلف الكتاب، كان لا بُد أن يتوجه البيض وصالح إلى افتتاح، أو "زيادة نفق جلدمور"، وعندما وصل الاثنان إلى النفق، التفتا إلى الجماهير وهي تهتف باسم الوحدة اليمنية، الأمر الذي دفع الأمين العام للحزب الاشراكي اليمني، السيد علي سالم البيض، إلى الحديث مع الرئيس صالح بالقول: "إن هذه الجماهير المحتشدة لم تأتِ لتحيتي أو لتحيتك بل أتت لتحيّي الوحدة اليمنية، فهل لنا أن نخرج الوحدة اليمنية من داخل هذا النفق؟".
رد صالح بالقول: "لقد قدم كل واحد منا ما لديه".
ومع هذا الانسداد السياسي، اقترح علي سالم البيض أن تقام دولة الوحدة اليمنية على مسودة دستور عام 1981، التي كانت بين الرئيس صالح والرئيس علي ناصر محمد، مع أن البيض كان ملزما بالتمسك برؤية الحزب الاشتراكي.
وافق الرئيس صالح على مقترح البيض، وتم استدعاء العرشي من الشمال، وراشد محمد ثابت من الجنوب؛ لصياغة اتفاقية عدن، وسط ذهول وفد الشمال والجنوب على حد سواء، لا سيما وأن اتفاقية عدن ليست اتفاقية منشِئة للوحدة، بل هي اتفاقية تنفيذية تتعلق بقيام دولة الوحدة اليمنية، وإخراجها إلى حيز الوجود، الأمر الذي استدعاء اجتماع المكتب السياسي واللجنة المركزية للحزب الاشراكي اليمني للوقف على ما أقدم عليه الأمين العام علي سالم البيض.
حضر الأمين العام علي سالم البيض اجتماع اللجنة المركزية، ودافع عن قراره الشجاع، قائلا إنه يتحمل مسؤولية القرار، وإنه قد حان الوقت لإخراج الوحدة من نطاق الشعارات إلى حيز الواقع، وإن وحدة اليمن إذا لم تتم اليوم لن تتم بعد ذلك، خصوصا إذا انتهت دول الغرب بقيادة أمريكا من ترتيب أوضاع العالم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.
ولأن الوحدة هي مشروع نضالي لهؤلاء، فقد رفع كل عضو من أعضاء اللجنة المركزية بطاقته الحزبية، وصوتوا لصالح قرار علي سالم البيض، ثم ذهب الجميع إلى صنعاء عاصمة الوحدة، التي اغتالت ثلاث ثورات ووحدة.
وحده الرفيق منصر السيلي الذي تحفظ، قائلا: "أنا مع الوحدة، لكني متحفظ على قرار البيض، الذي تجاوز رؤية الحزب الاشتراكي اليمني، وإن قرار البيض يحتاج إلى مؤتمر حزبي".