مقالات

اليمن وثورته' في كتاب يكبُرني بثلاثة أعوام!!

26/03/2021, 09:24:16

حمل لي صديق عزيز كتاباً عتيقاً عمره ثماني وخمسين سنة، اضطر إلى تغليفه بغلاف بلاستيكي حتى لا تتساقط أوراقه القديمة.
عنوان الكتاب "أضواء على ثورة اليمن"، ومؤلفاه "محمد صادق عقل وهيام أبو عافية"، وصدر، في الغالب، في العام 1963م عن الدار القومية للطباعة والنشر في القاهرة، ضمن سلسلة كتب قومية.

أما سبب إعارته لي هذا الكتاب -حسب قوله- أنه قد يفيدني في اشتغالاتي الأخيرة داخل الموضوع التاريخي القريب، ومرويات الهامش عن ثورة 26 سبتمبر.
قيمة الكتاب تكمن في طبيعته التوثيقة للحظة التاريخية لثورة 26 سبتمبر، مع انصرافات متباعدة إلى حواف التاريخي والجغرافي لبلاد اليمن، التي خرجت لتوّها من ظلمات العزلة والانغلاق مع هذا الفعل الاستثنائي الجبَّار، أما طبيعة محتواه الصحافي التبشيري، التي حكمت كثيراً من صياغاته التحريرية،  تنتقل بقارئه إلى ذلك الزمن بكل التباساته وظروفه التاريخية والسياسية، أما الألفاظ والمصطلحات المستخدمة والموظفة في ثنايا النصوص فكانت هي الناقل الأمين لنبرة الخطاب العام في ذروة التعالي القومي. وقبل أربعة أعوام من نكسة حزيران/ يونيو 1967، التي أعادت ترشيد هذا الخطاب في سياق المراجعات الشاملة التي تبحث في جذور النكسة، وحجم المؤامرات الفظيعة التي تعرّضت لها الأنظمة الجمهورية في المنطقة، وعلى رأسها النظام المصري في الحقبة الناصرية.

الإرباكات في توصيف طبيعة الثورة، ونسبها لشخص واحد مثل "الزعيم عبدالله السلال)"، وكذلك الاعتماد على مسمّى اختزالي للبلد لما بعد سبتمبر (جمهورية اليمن)، وأيضاً التعيينات الجغرافية للحدود الجنوبية ( الجنوب العربي)، تُرد إلى طبيعة تجميع المادة التي حُرِّرت بقلمين، وفي فترة قصيرة بعد إعلان الجمهورية، في بلد شحّت مصادر المكتوب عنه، بسبب العُزلة الطويلة التي فرضها حكم الأئمة الطويل.

يحضر في تمهيد الكتاب هذا المجزوء النصي:
"توِّجت هذه الحركات التحررية بقيام ثورة السلال عام 1962، التي قضت على أعتى النّظم الرجعية في العالم، وأقامت النظام الجمهوري في ربوع البلاد، ليأخذ اليمن مكانه في الرَّكب العربي المتحرر، وكان لاندلاع هذه الثورة ونجاحها دوّي هائل هزّ عروش الرجعية وزلزل الأرض تحت أقدامها، فقد وقف سعود وحسين موقفاً عدائياً منذ البداية، وعملا قدر طاقتهما على مقاومتها وحشدا لها المتسللين ومداهم بالمال والسلاح، بمساندة بريطانيا التي أحسّت بالخطر الداهم على مصالحها في الجنوب.. وكان نجاح الثورة اليمنية نقطة تحوّل في تاريخ العالم العربي، فما أن مرّت أيام حتى أنهار الحكم الفردي في العراق، والحكم الانفصالي في سورية، وبرز إلى الوجود العربي لأول مرّة كتلة الجمهوريات العربية المتحررة" ص5.

السياقات المتعددة في هذا المجزوء تختزل بعضاً من تلك الإرباكات، وتقارب في إحداها  طبيعة العداء الذي حكم علاقة جمال عبد الناصر بحكام السعودية والأردن وقتها (الملك سعود والملك حسين) ومن ورائهما بريطانيا في أواخر سنوات حضورها الاستعماري في المنطقة، وهي تختزل في الأصل عداء الجمهوريات الوليدة مع الملكيات المستزرعة؛ من الزاوية التي ترى أن توجّهات الأولى تقدّمية تعمل لمصلحة شعوبها، والثانية رجعية تسخر كل إمكانياتها لتأبيد أنظمتها الأوتوقراطية، فالسعودية كانت خائفة من امتداد الثورة من خاصرتها الجنوبية الرخوة (المناطق اليمنية التي اقتطعتها في عسير ونجران)؛ أما بريطانيا التي كانت تحتل مناطق جنوب اليمن فكانت هي الأخرى قلقة من التحول الثوري في شمال اليمن الذي بات يهدد مصالحها، ولم تهمل التعريض بنظام "عبد الكريم قاسم" المُنقلب عليه في العراق في فبراير 1963م، ولا سقوط  الفصيل الانفصالي في مارس 1963م الذي قاد عملية إخراج سوريا من دولة الجمهورية العربية المتحدة في سبتمبر 1961، بعد ثلاثة أعوام من نشوئها بين مصر وسوريا.

غير أن القراءة الفاحصة لتلك الفترة تقول إن اليمن بفعل هذه الثورة والخوف من أثرها تحوَّل إلى ساحة معركة مفتوحة بين المعسكرين في ذروة استقطابات الحرب الباردة، التي كانت مصر تمثل منزعها الاشتراكي، والسعودية تمثل مصالح الغرب الامبريالي والاستعمار القديم، واستخدمت فيها كل الإمكانيات المالية والعسكرية واللوجستية التي أنهكت تماماً الجيش المصري واستنزفت الخزانة المصرية، في ذروة التوجهات الاشتراكية للحقبة الناصرية، والسبب في ذلك أن الطبيعة الجغرافية والبنية القبلية شديدة التماسك، بالإضافة إلى الفقر والجهل والعزلة، لعبت دوراً نشطاً في ذلكم التشظّي البعيد.

موقع وسكان اليمن هما المفردتان الرئيسيتان اللتان انشغل بهما مؤلفا الكتاب في الفصل الذي حمل عنوان "استراتيجية اليمن"، وفي الأولى لم تعد مقاربة الموقع لأغراض قرائية جغرافية صرفة، بل صار تعييناً جيوبوليتكياً حاداً، حين يصير محلاً لأطماع القوى المتصارعة عبر التاريخ:
"وكان يثير دائماً مخاوف الاستعمار من احتمال تحول البحر الأحمر إلى 'بحيرة عربية'، ومن ثم إلى تحكم العرب تماماً في خطوط المواصلات بين آسيا وأوروبا، كما أن قرب اليمن من ساحل شرقي أفريقية جعل له وللمنطقة المحيطة به أهمية خاصة بالنسبة للدول الاستعمارية صاحبة المصالح في شرقي أفريقية"، ص10.

ويدعم استنتاجه هذا بوقائع تاريخية محددة، منها  احتلال الفرنسيين للمخا وآجبار وكيل الإمام فيها بعمل اتفاقية احتكار شراء وتصدير البن "الشهيرة"، في مطلع القرن الثامن عشر، وتحديداً في عام 1709م قبل مائة وثلاثين عاماً من احتلال الإنجليز "عدن" في يناير 1839. وبعد سبعة عقود من الواقعتين حاولت إيطاليا، في العام 1912، احتلال السواحل اليمنية الغربية المحاذية لمستعمرتها الإريتيرية من أجل عمل كماشة لغلق البحر الأحمر في وجه من تشأ، ويهمل الكتاب ذكر محاولات البرتغاليين -في وقت أبكر من الجميع- احتلال سواحل اليمن الجنوبية والغربية والشرقية (الشحر وسقطرى وعدن والمخا)، ابتداء من العام 1507م،

ما يتعلق بالسكان يرد في الكتاب أن عدد سكان اليمن كان، في العام 1949، أربعة ملايين ونصف المليون نسمة، وهذا الرقم من واقع تقديرات جُباة سلطة الإمام في فرض الأعشار والزكوات والضرائب على السكان، وليس تعدادا حقيقياً، ولأن الرقم المبالغ فيه، أيضاً، كان لتحصيل المبالغ، بعيداً عن إقرار العائلات المستهدفة فيه.
تتحدد المدن والحواضر اليمنية في الكتاب بسبعة عشر موضعاً (صنعاء، وتعز، وزبيد، وإب، والحديدة، وجبلة، وذمار، وبيت الفقيه، والمخا، والجند، وعمران، وكوكبان، ومأرب، وكمران، وعدن، والجوف، والسحول)، وتُوصف عدن في الكتاب بأنها:


"ميناء جبلي حصين جنوبي اليمن، مشهور بالتجارة على المحيط الهندي، وترد إليها السفن من الحجاز والهند والصين والحبشة، وهي شديدة الحر. استولى عليها الانجليز سنة 1839م، وهي الآن تعمل على التخلص من الاستعمار، والانضواء تحت راية الوحدة العربية التي تعمل على دعمها الجمهورية العربية المتحدة" ص37.

"الحركة التحررية في اليمن" عنوان فصل ثالث في الكتاب، وهو مع ابتساره الشديد، يحاول تقديم لمحة تاريخية عن النشاط السياسي والعسكري المناهض لسلطة الإمامة، ابتداء من مناهضة بعض رجال الدِّين الزيديين وشيوخ القبائل، لتولي يحيى حميد الدين السلطة، فارتكب بحقهم مجزرة في العام 1919، ثم اعتقال وقتل الكثير من الوجهات الاجتماعية والمشايخ القبليين، من تعز وإب في العام 1921، بعد سنوات قليلة من ذهابهم إلى صنعاء لتهنئته بالسلطة. مروراً بثورة 'الزرانيق' في 1928، ثم هروب مجموعة من الأدباء والمثقفين المقربين من ولي العهد أحمد من تعز إلى عدن، وتشكيلهم حزب الأحرار اليمنيين في العام 1944، الذي انضم إليه أحد أبناء الإمام (سيف الحق ابراهيم) في العام 1946.
قيام الثورة الدستورية في 17 فبراير 1948، التي لم تستمر سوى شهر واحد، ليدفع ثمن ذلك مئات المثقفين اليمنيين ورموزها التنويرين وعسكريها الأفذاذ ثمناً باهظاً قتلا وتنكيلاً واعتقالاً.

ومع ذلك لم يستكن الأحرار، فقاموا في العام 1952 بإعادة ترتيب صفوفهم بإنشائهم كيانا سياسيا جديدا أسموه 'الاتحاد اليمني'، بعد أن كان الشيخ عبدالله علي الحكيمي قد قام  بإصدار جريدة "السلام" في "كارديف" أواخر عام 1948، لتحمل على عاتقها توصيل صوت الأحرار اليمنيين في المنافي والمهاجر.  

في مارس من العام 1955، ثأر الجيش في تعز وحاول تغيير السلطة من داخلها، باستبدال الإمام أحمد بأخيه عبدالله، قبل أن تنتهي الحركة بانتكاسة مروِّعة وقتل رموزها بمن فيهم شقيقان للإمام وقائد الجيش أحمد الثلايا.
وما أعقب ذلك من حركات تمرد قبلية في الشمال والشرق والجنوب، وأكثر من محاولة اغتيال للإمام في 'الحديدة' و'السخنة' من ضباط وفدائيين في الفترة من 1956 إلى 1961، وكانت كلها تصبّ في خانة التهيئة للثورة، التي انفجرت في السادس والعشرين من سبتمبر بعد أيام قلائل من موت الإمام أحمد في تعز، متأثراً بإصابته البليغة عند محاولة اغتياله في مستشفى 'الحديدة' في مارس 1961، وتنصيب نجله البدر إماماً جديداً.

الثورة أو ثورة "عبدالله السلال"، 1962م، كما يسميها الكتاب في عنوان متفرّع من العنوان الأصل لأحد فصول الكتاب، وفيه يقدّم المؤلفان صورة مبتسرة للثورة، واختزالها بشخص الرئيس السلال دون غيره من الأسماء في تنظيم 'الضباط الأحرار'، فملمح القائد الضرورة الذي حكم الخطاب العام، في ذلك الوقت، هو الذي أنتج هذه الصورة المشوّشة.

التركيز الأخير في الكتاب سيقتصر، في أكثره، على إبراز دور مصر وقائدها عبد الناصر في دعم الثورة اليمنية، ابتداءً من اعترافها الباكر بالدولة الوليدة في 30 سبتمبر 1962م، مروراً بتوقيع الاتفاقية العسكرية بين الجمهورية العربية المتحدة والجمهورية العربية  اليمنية في 11 نوفمبر 1962م، وبمقتضى هذه الاتفاقية يصبح الاعتداء على أي دولة منهما، أو على قواتها المسلحة، اعتداء على الدولة الأخرى، ممهدة لدخول القوات المصرية إلى اليمن لدعم ثورتها، ولم تنسحب منها إلاَّ بعد يونيو 1967م، بعد أن قدمت التضحيات الجسام.

الرصد الإعلامي، والمتابعات الصحافية، لردود الأفعال في العواصم المنقسمة حيال الثورة تشكلان مادة وثائقية مهمّة في هذا المحتوى، ولا يمكن تجاهلها، لأنها تقدِّم خلاصة مهمّة للمواقف الدبلوماسية والسياسية للدول التي صارت تمثل أطرافاً فاعلة داخل لعبة الحرب، والتي يعاد اليوم إنتاج نسخة ثانية منها، وإن بمنكِّهات ومحسِّنات مختلفة قليلاً.

مقالات

أبو الروتي ( 14 )

كان المعهد العلمي الإسلامي يتبع الشيخ محمد سالم البيحاني -خطيب وإمام مسجد العسقلاني في كريتر- وكان مدير المعهد هو الأردني ناظم البيطار، الرجل الذي كان مجرد ظهوره يثير فينا الرعب.

مقالات

ما العمل؟

عندما قرأ مقالي «ماذا ننتظر كيمنيين؟»، عَقَّبَ الأستاذ المفكر الإسلامي زيد بن علي الوزير بسؤال: «ما الحل؟»، و«ما المخرج؟»؛ وهو «سؤال العارف». وقد وردَ في الأثر: "ما المسئول بِأعلمَ مِنْ السائل".

مقالات

"أيوب طارش".. اسم من ذهب

ما أكثر ما تعرَّض أيوب طارش لعداوات ساذجة من بعض المحسوبين -بهتانا- على رجال الدين، وخطباء المنابر المنفلتة، ليس آخرهم عبد الله العديني، الذي أفسد دينه ودنياه وآخرته بإثارة قضايا هامشية لا تهم أحدا سواه

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.