مقالات
برفقة شوبنهاور.. حين يكون اليأس دافعًا أصيلًا للحياة
اليوم الثالث برفقة شوبنهاور، كان اسم هذا الفيلسوف في ذهني، يجلب معه إيقاع "الشوكة".
يبدو كئيبًا ويعدك بالقنوط، ولهذا تأخرت في الإصغاء إليه. كنت بحاجة إلى التهيؤ له، ترقُّب تلك الحالة الذهنية الجسورة للاقتراب منه؛ كي أتجرأ على تصفُّحه دونما وجل. سلاحي الوحيد هو أنني أُباغته في اللحظات الفائقة للذهن. سيقول القارئ: لماذا كل هذا الاحتراز منه..؟ ببساطة لأن الفكرة المشاعة عنه "أنّه فسليوف التشاؤم"، ويالها من فكرة سوقية جديرة بالعقاب.
منذ اليوم الأول برفقته، منحني ليلة معرفية نادرة. كانت البداية من كتاب هامشي "تهمة اليأس"، أكملته في ثلاث ساعات، قراءة متأنية وفاحصة. وخرجت من حديثه عن اليأس بتفاؤل أصيل، لا يمكن لكل فلاسفة الأمل ومروّجي الأفكار الوهمية، أولئك الذين يتسسبون لك بالتعاسة بطريقة حديثهم الرخيص عن السعادة، أن يمنحوك ذلك الوثوق بوعيك عن الحياة، تلك الإشراقة والوضوح، كما يمنحك شوبنهاور وهو يُفلسف لك اليأس، ويحررك منه.
آمنت، من الساعة الأولى برفقة شوبنهاور، أنّ يأسه أكثر قوة من آمال الآخرين، وأن تشاؤمه مولّد لدافعية قوية في الحياة، إنّه مُحرِّض أشد فاعلية من كل تفاؤل رتيب. فهذا الأخير يحمل معه احتمالية تخديرك عن العمل، ويُعطل كل اندفاعاتك الحيوية في الحياة.
يعتبر كتاب "العالم إرادة وتمثُّل" هو العمل المركزي لهذا الفيلسوف الكبير.
وإذا حاولنا تبسيط الفكرة الواسعة لعنوان هذا المؤلف سنقول: إنّ الحياة كما تبدو لنا، الحياة بكل ما فيها من مخلوقات، حيّة وجامدة، هي مجرد مظاهر عابرة، تمثيلات متفرقة لجوهر خفي، ويتعذر إدراكه.
"إنّ الشيء في ذاته" -بحسب عبارة كانْط الشهيرة- لا يمكن للوعي البشري أن يُحيط به. علمًا أن فلسفة "كانْط" تُصنّف كمُكمِّل لفلسفة شوبنهاور، حتى مع افتراقها عنه.
لستُ أنوي هنا مناقشة جوهر فلسفة الرجل، ذلك أنّ أي اختزال للفلسفة هو تشويه لها. تمامًا، كما هي تلك الفكرة السوقية وهي تُصدِّر شوبنهاور؛ باعتباره فيلسوف التشاؤم ومُبشِّر بالعدم. إنّها عَرَض من أعراض التنميط الساذج للفلسفة والفلاسفة بشكل عام، على أنّ هذه (صفة التشاؤم) ليست تُهمة بحدّ ذاتها. ففي كلّ حال، لا تُقاس عظمة الكاتب وعبقرية الرجال الفارقين في التاريخ بمدى اقترابهم من العدمية والتشاؤم، أو ابتعادهم عنه. فالمهم هو نجاحهم بتقديم ميراث معنوي وتأويلات متفرّدة للحياة والوجود بشكل عام.
كلّ من يُنير منطقة في وعينا نحن مدينون له بجرعة حياة إضافية. وعليه، بمقدور فكرة سوداوية أصيلة أن تمنحنا البهجة، وتعزز من شهيتنا للحياة أكثر من فكرة أخرى ذات طابع إيجابي، وتحاول شفاءنا فيما هي تفتقد للأساس والبناء الجيد.
لهذا السبب، ينجح شوبنهاور في منحك وضوحا جيدا تجاه الحياة. يكشف لك أصولها البعيدة، ويُذكِّرك بأنّك مخلوق، لا تختلف كثيرًا عن باب منزلك، سوى في مستوى إرادتك.
إنه يُعيدك إلى حقيقتك الصافية، ويُحررك من أوهام الذات، والتصورات الإنشائية عن جوهر الإنسان.
تنزاح من ذهنك كل تلك الأفكار الزائدة، المعاني المُقحمة في داخلك، وتستعيد معه صفاءك الأول. أنت مجرد مظهر عابر أيّها الإنسان، لستَ محور الدنيا ولا غاية الوجود. هناك جوهر كوني، غاية كبرى تقع خلفك وهي الأساس، ضابط اللعبة وخالق قوانينها، وأما أنت مجرد شكل يتحرّك في مدارات مُعدّة سلفًا، ولا قدرة لك للتحايل على الوجود أو إعادة خلقه.
هل هناك أي شيء محبط في فلسفة الرجل..؟ لا. هناك محاولة لضبط الرؤية، وإبطال الخديعة. كما أنّه يُعيد إلى الوعي البشري نزاهته في التعامل مع العالم، ويجعل المسافة بين الحقيقة والعواطف واحدة. معه ترى الخيبات كرؤيتك للآمال. يغدو الفشل حاملًا للحكمة مثل النجاح. لا شيء يُبرر غضبك وتوترك. فكل ما يحدث لك، ولو كان مضادًا لأحلامك، هو نتيجة طبيعية لمسار الحياة، فأنت خادم صغير في عجلة الإرادة الكونية، وليس من حقك أن تتشنج في حضرتها. حسبك أن تعمل وتتحرك وتجتهد؛ كي تصعد بفاعلية إرادتك نحو مستوياتها القصوى، ولا تكترث للنتيجة؛ فلست أنت من يُقرر النتيجة النهائية للعالم، أيها المخلوق المسكين.
تكمن عبقرية شوبنهاور في تركيزه على فكرة الإرادة، ذلك الدافع الداخلي لدى الإنسان، إنّها بذرة الحياة كلها وسرّ الخلود، البرهان الأوحد على أنّ خلف هذا الوجود إرادة أولية هي مصدر وأساس العالم، كلّ ما في الوجود مجرد مظاهر، بما في ذلك جسد الإنسان، غير أن كلّ شيء أيضًا له إرادة؛ حتى الحجر؛ يتمتع بإرادة في مستوياتها الخفيضة جدا.
وفي النهاية، يعتبر الوجود بكلّه قطعة واحدة، فأنت الإنسان، وتلك النجمة في السماء والشجرة في فناء المنزل، النهر في الوادي والطائر في الجو، كل شيء، كل مخلوق حي وجماد متصلان ببعضهما تربطهما غاية وجوهر واحد، مهما تفرقت مظاهرهما وتنوعت صفاتهما.
العالم بلا معنى، ومجرد الوجود يعني المعاناة، ولا مهرب من هذه الحتمية. فحقيقة الوجود صراع بلا هدف، وليس ثمة تطور في المستوى العميق للحياة، كلّ ما يبدو تطوّرًا هو مظهر شكلي وخديعة نظرية. أمام هذه الحقيقة القاسية لا يبقى للإنسان كي يخفف من قسوة المعاناة سوى التضامن العميق مع الآخر، والزهد في الرغبات الدنيوية. وهناك فكرة أساسية، نسيانها هو المولد الكبير للنزاعات، فكرة أنّك والآخر شيء واحد. لا يوجد انفصال سوى في ذهنك. أنت من تدرك الأشياء والمخلوقات بشكل متفرّق، ومن هنا ينشأ النزاع بينك وبين الآخرين. وحين يبدأ البشر في إدراك حقيقة التوحّد العميق لأصل الحياة سيخف النزاع بينهم.
هكذا تكون الفلسفة التشاؤمية مصدر وعي يفضي إلى تخفيف قسوة الحياة، أو يجتهد ليضيء أسباب الشقاء المتضاعف في هذا العالم، حيث الجميع يتحرك مدفوعا بوهم تفرُده، وهم إحساسه المختل بأنّ نجاحه الخاص ذو معنى شخصي، ناسيًا أن لا شيء يمكن أن يكون مكسبًا خاصًا، حتى حين تزعم أنك تربح بشكل ذاتي، لا معنى لذلك الربح. ولا يمكنك أن تحصد أي جدوى حقيقية، أو مكسب باطني يتعلق بك كفرد، ذلك أنّ الحياة في جوهرها حركة جماعية، ولا شيء خارج ذلك.
الخلاصة: أحد أهم الخلاصات المتفرِّدة لفلسفة شوبنهاور قوله إنّ المستوى الأكمل للفعل الإنساني أعلى حالة وجود يمكن للإنسان الوصول إليها، هو في قدرته على أن يتجاوز فكرة الإرادة نفسها، أن يحيا فيما وراء الإرادة الذاتية، وكأنّه يود القول إن هذا المستوى من التحقق للوجود الإنساني يجعل الإنسان متحدًا مع الإرادة الكلية للعالم. إنها الفسحة الوحيدة للتخفف من معاناة الوجود، حيث الذات الفردية تجاوزت أنانيتها المحدودة، وصارت متماهية مع أصلها؛ وهذه فكرة تبدو متجاورة مع أفكار تصوّفية كثيرة، لعلّ أبرزها فكرة الحلول، ووحدة الوجود. والأخيرة متقاربة كثيرًا مع فلسفة شوبنهاور، حيث العالم قطعة واحدة، ولا يبدو مبعثرًا ومتعددًا سوى في ذهنك أيها الإنسان.