مقالات

تاريخ اليمن "المهمل ومكتوب الهامش"!!

19/03/2021, 09:47:30

تاريخ اليمن المعاصر بمنعطفاته الحادة وأحداثه الكبيرة  لم يدوَّن بمحتواه الصريح؛ قول مثل هذا يُبنى على أن هناك سردية ظِلية ومتوارية في هذا التاريخ،  لم تدخل ضمن مُتاح القراءة، ولم تصرّ فعلاً مؤثراً في نسق التلقي حتى اليوم، بل وغدت -مع الوقت- هامشاً مهملاً قابلاً للتآكل والانطمار، لأن ظروفاً متعددة ومعقّدة منعت أصحابها من البوح بتفاصيلها عبر الكتابة أو التسجيل، وإن سرَّبوا بعضاً منها عبر المشافهات،  فصارت مُتداولة عبر الألسن كطُرف ونوادر.

أسماء عديدة قادتني الصدف، وأحياناً الظروف،  الجلوس معها، لأكتشف أن أذهانها لم تزل طريّة، وتحتفظ بمئات الحكايات عن التاريخ القريب، التي لها علاقة بمجريات الأحداث وتعاقبها، وأقدم تلك الحكايات تعود إلى منتصف الأربعينات،  وأُحاول بالكتابة تظهير محتواها، وفي بالي أن يفتح مثل هذا الفعل مساحات للمعاينة والاستبصار من قِبل المهتمين بتاريخ اليمن المعاصر، وأحماله الاجتماعية والسياسية والثقافية، لأن ما يقوله هؤلاء، وبتفاصيل دقيقة، يشجِّع على ذلك، على الأقل من الزاوية التي أنظر بها للأمور وتقديرها.

أصحاب مثل هذه المسرودات، ببوحهم هذا، لم يعودوا محكومين بحسابات السياسة والمنفعة والمخاتلة، كما كان الحال مع الأسماء المكرَّسة في فضاء السياسة والمجال العام، التي أصدرت مذكراتها، أو مع ورثتها الذين تمنعوا  أو أحجموا عن نشر وثائق ومذكرات من رحلوا من الآباء والأقارب.

بمعنى أقرب أن كثيراً من المذكرات والوثائق والمدونات تركها أصحابها، الذين كانوا في يوم من الأيام  أسماء فاعلة ومؤثرة في مجرى الأحداث، وأوصوا بإتاحتها عن طريق النشر  بعد موتهم، غير أن وصاياهم لم تُنفَّذ أمام ضغوط السلطة وأدواتها الصلبة، التي مورست على الورثة، الذين استحلى بعضهم اللعب على هذا الوتر، ومردودات الانتفاع منه.
مثلاً، قال لي أحد الموثقين جداً ممن التقيت بهم إنه يعرف اسمين -على الأقل- من الشاهدين الحقيقين على الأحداث المعاصرة، وقد تركا مذكراتهما لدى الأبناء، وأوصيا بنشرها بعد رحيلهما، لكن المُوصى لهم لم يفعلوا ولم ينفذوا رغبتيهما، لأسباب وتعليلات تتصل بما ذكرناه.

المهمل في بوح المسرود، الذي أعمل على بعض من تفاصيله، في حال تواصل واكتمل نشره سيصير مع الوقت، والتركيم عليه من مهتمين آخرين، مفاتيح مهمة لقراءة أحوال اليمن وأهواله لثمانية عقود على الأقل، ويمكن أن يمتح منها كاتبو السرد (الروائيون) وباحثوا الاجتماع، ومدونو التاريخ، والمشتغلون في السياسية أيضاً؛ فالحكايات بطرافتها وتراجيديتها وغرابتها يمكن أن تكون ملهماً حقيقيا للقصاصين؛ أما تصوير الفقر والجوع والمعمار يمكن أن تكون مستلهمات إضافية للباحثين الاجتماعيين، مثلها مثل تهتكات السياسة والقمع والاضطهاد والتنكيل، التي ستخلق أمام المهتمين بالشأن السياسي مساحة جديدة لقراءة عثرات التحول خلال العقود الماضية.

أقدم تلك الحكايات تعيد نقل صورة مدينة، مثل عدن، وهي في بداية تشكلها كمدينة متعددة الأعراق والثقافات والهُويات بعد الحرب العالمية الثانية في منتصف الأربعينيات، وكيف أنها خلقت في وعي الحكائين ثلمة المغايرة، ابتدأ من قصة شوارعها الترابية التي كانت تُرَّشُ بماء محمول على القرب، قبل تصير ثعباناً أسوداً متداخلا بين الأحياء التَهمَ كل تواريخ ما قبله، وجعل من سائقي عربيات النقل الحديثة نجوماً ساطعة في سماء الشهرة، على حساب الجمًّالة وجِمالهم، التي كانت الوسيلة الوحيدة للنقل والمواصلات، وكيف أن الكهرباء العمومية التي تُنتج بواسطة مولدات ضخمة، صارت تتغذى منها لمبات الشوارع الرئيسية والمحلات والبيوت، وقضت تماماً على السُّرج التقليدية التي اعتمدت لزمن طويل على 'الكيروسين' و'الجاز'، وكانت أُسر معروفة في المدينة تتولى تشغيلها حينما يحل المساء، ففقدت عملها بسبب ذلك، وإن بقيت تحتفظ بلقب عملها السابق مثل بيت "المُسرِّج"؛ مثلها مثل دخول مشروع المياه، فقضى مهنة ورادي الماء إلى المنازل والمحلات.

والشيء القريب من المهنتين مهنة ثالثة اختصت بنقل المخلفات الآدمية، التي كان يقوم بها عمّال أفارقة مخصوصون، وفقدوا وظائفهم بعد دخول المجاري إلى المدينة، بعد أن نسجت حولهم عشرات الأساطير والحكايات الخرافية التي كان أبرزها:  
روى لي خالي قبل سنوات طويلة عن اليهود اليمنيين، حينما غادروا القرى التي كانوا يسكنوها في منطقتنا، بكوا وأبكوا جيرانهم، وإن مغادرتهم كانت في الأصل بسبب ضغوط كبيرة، وترهيب مورس على معظمهم، لأن صفقة "بساط الريح"، التي أبرمتها منظمات يهودية صهيونية مع وكلاء الإمام وبمباركته لنقل اليهود اليمنيين إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، كانت أكبر من قدرتهم على الرفض.

وقال لي صديق من مدينة "إب"  عن والدته إنها تربّت يتيمة، وكانت تخرج لرعي المواشي وهي جائعة، وكانت امرأة يهودية في قرية مجاورة تنتظر وصولها لتعطيها القليل من الخبز، وحين غادرت بكت وأبكت، وهذه الحادثة التي وقعت في ريف "إب" وقع ما يشبهها في مدينة صنعاء، يرويها الراحل علي النوبي في كتابه "مسيرة اليمن"، وخلاصتها: أنه بعد أن أمر الإمام  باسترجاع الحبوب التي صُرفت  للأب قبل وفاته، وهو في مهمّة عمل في تهامة، حضر إلى مسكن المتوفي جيرانه اليهود بحبوب أكثر، وصكاً يعفي أسرة المتوفي من دين نقدي لرب العائلة اليهودية.  
الشخص ذاته قال إن اليهود في المنطقة جَدَروا (صنعوا جداراً من الأحجار الصلبة والطين) على أحد الجروف الجبلية القريبة من القرية على عشرات المخطوطات واللقى قبل مغادرتهم في رحلة "بساط الريح"، وبعد سنوات انهدم الجرف بفعل الأمطار فتبعثرت الأوراق على المنطقة المحيطة دون أن تسترعى انتباه أحد، إلاَّ حينما وصل بعد ذلك بفترة طويلة مجموعة من السياح إلى المنطقة، وكانوا يسألون عن ذلك الموضع. وقال أيضاً، نقلاً عن أمه، إن يهود المنطقة كانوا يستسقون ويستمطرون مع كل دعوة للمسلمين لصلاة الاستسقاء، إذ كانوا يرصون كتبهم المقدّسة فوق بعض، ثم يقوم الحاخام الخاص بهم بوضع البوق فوقها، ويبدأ بنفخه مع إطلاق تراتيل خاصة بهم، بعد أن يكون المسلمون قد أتموا صلاتهم في مكان قريب.  

قصص اليمنيين مع الجوع المستديم والمجاعات التي حصدت ألوف البشر، مطلع أربعينات القرن الماضي، لها في التفاصيل سرديتها المؤلمة، التي جعلت من ثورة سبتمبر على حكم الأئمة لحظة فارقة في حياة اليمنيين، وكيف صار البحث عن العلفق (الحَلَص) مهمة شاقة لإطعام الأطفال وكبار السن، وكيف أن الجري وراء البغال الخاصة بطبقة الحُكم من أمراء وسيوف وقضاة وحُكام وعمّال، كان الهدف منها تعقب ضفعها (الروث) ونبشه للبحث عن حبوب كاملة لم تهضمها معد البغال المرفّهة.

قال لي واحد من أصحاب "سير الهامش"، التي اُدوّنها، إنه وصل به الحال هو وزملائه في القسم الداخلي للمدرسة العلمية، أواخر خمسينيات القرن الماضي في صنعاء، أنهم كانوا يستلِفون من بعضهم ليس الكدمة الجافة كاملة، وإنما اللجع (اللقيمة) لسد رمق مفتوح.

المهمل والمُتعالى عليه في مثل هذه التفاصيل، فيما كُتب من سير ومذكرات وشهادات ، هو في الأصل ملح التاريخ وطينه، الذي يُحرثُ بالحبر، وبه نستطيع رؤية وتأمل ذاتنا الجمعية، ومشتركنا الاجتماعي والثقافي بجذره الواحد، وإن التسلّط والاستبداد بشقيه الدِّيني والسياسي هو أصل المشكلة، ويتغذى على وهم العصبويات والتمايز السلالي والمناطقي، الذي يُغرس في أذهان العامة، ليصير مع سنوات الانسداد شعارات للتعبئة، يشتغل تحت لافتاتها تجار لا يريدون لهذه البلاد الخروج من مأزقها الوجودي.

مقالات

أبو الروتي ( 14 )

كان المعهد العلمي الإسلامي يتبع الشيخ محمد سالم البيحاني -خطيب وإمام مسجد العسقلاني في كريتر- وكان مدير المعهد هو الأردني ناظم البيطار، الرجل الذي كان مجرد ظهوره يثير فينا الرعب.

مقالات

ما العمل؟

عندما قرأ مقالي «ماذا ننتظر كيمنيين؟»، عَقَّبَ الأستاذ المفكر الإسلامي زيد بن علي الوزير بسؤال: «ما الحل؟»، و«ما المخرج؟»؛ وهو «سؤال العارف». وقد وردَ في الأثر: "ما المسئول بِأعلمَ مِنْ السائل".

مقالات

"أيوب طارش".. اسم من ذهب

ما أكثر ما تعرَّض أيوب طارش لعداوات ساذجة من بعض المحسوبين -بهتانا- على رجال الدين، وخطباء المنابر المنفلتة، ليس آخرهم عبد الله العديني، الذي أفسد دينه ودنياه وآخرته بإثارة قضايا هامشية لا تهم أحدا سواه

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.