مقالات

ثوار 14 أكتوبر وأرشيف المحتلين

14/10/2024, 15:32:54

أثار انتباهي في السنوات الأخيرة ظهور الكثير من الوثائق والصور والأفلام التي تُعرض عبر القنوات الفضائية اليمنية، وهي وثائق تحكي عن ملاحم سطّرها أبناء مدينة عدن في نضالهم ضد الاستعمار - البريطاني البغيض - الذي رزح بين ظهرانيهم 129 عاماً دون أن يعترف بما اقترفه من جرم في حق أبناء اليمن، الذين -كما تحكي هذه الصور والأفلام- كيف أن المستعمر نكّل بهم، فقتل من قتل، وسجن من سجن، وعذب من عذب دون أي شعور بالذنب!!

والحق أن الاستعمار لم يكتفِ بذلك، بل نراه إلى اليوم ما يزال يكيل المؤامرات والدسائس والفتن في المنطقة كلها، وما نلمسه من إثارة للحروب والمواجهات والانقسامات داخل البلدان العربية اليوم ليس سوى جولة جديدة لاسترجاع الماضي الاستعماري "الرومانسي" كما يرى بعض منظريهم، فهذا السير تشارلز جونستون المندوب السامي البريطاني في عدن -بين عامي 1960- 1962- يقول في كتابه "مشهد من نقطة السفن.. التواهي" - ترجمة منال حلبوب: "نحن -البريطانيين- دائماً ما ينظر إلينا على أننا المسؤولين عن أي ابتلاء يصاب به العالم الخارجي على جزرنا البريطانية، فمن الواجب علينا حينها أن نعد أنفسنا للوقت الذي تقع فيه هذه المصائب لنحسن التعامل معها، بدلاً من أن نعيش في أبراجنا العاجية للتأمل في ماضينا الرومانسي"، (ص131).. وهذا هو ديدن الاستعمار، فهو يعد نفسه دائماً للمستقبل، ولديه برامج مزمنة لكيفية العودة إلى مستعمراته السابقة، التي يعدها من ولاياته التي لا بُد أن تعود إلى حظيرة التاج الملكي.

ولعلَّ ما أريد الحديث عنه كيف أن الإمبريالية المتوحشة نهبت العالم، وسعت إلى الاستحواذ عليه مستخدمة كل أشكال البلع، والسيطرة والعنف؟، ولكنها اليوم في عالم تقريب المسافات لم تستطع إخفاء ماضيها الأثيم، وموروثها الشرس الذي كرَّس الاستيطان وخرافة تفوّق الأبيض، وأمعن في تشويه الوعي والهويات والثقافات الأصلية، وفي المقابل ها هي شعوب العالم المقهور تستفيد من الثورة التكنلوجية والثورة الإلكترونية والبصرية؛ لكشف زيف هذا التاريخ الملطخ بالدماء..

فحسناً فعلت المواقع الصحفية العالمية، سواء كانت مؤسساتية أو فردية؛ حين أخرجت ما لديها من تراث ثورة 14 أكتوبر 1963م، الأمر الذي جعلنا اليوم نرى بأعيننا خصوصية النضال اليمني في مدينة عدن الباسلة كنموذج لما قدمه الإنسان المغلوب على أمره في أي مكان من هذا العالم.

ويجدر بي أن أقول إن خسارتنا كبيرة حين لم نطّلع على هذا الإرث بشكل مبكر؛ لأن كل الذين نشاهدهم اليوم في الشاشات - وقد قدموا كل تلك التضحيات - لا نعرف أسماءهم ولا نعرف مآلاتهم، كما أننا لن نستمع إلى شهاداتهم، فبعضهم مجهولون، وبعضهم لم يهتم بما قدم؛ لأن الأوطان غالية والتضحيات رخيصة مهما سما حجمها في هذا المقام، وأما البعض فقد اكتفى بأخذ الفريسة من فم الذئب، ولكن إذا كان هذا الجيل (السبتمبري الأكتوبري بامتياز) قد قال كل ما لديه ورحل؛ فإن كل ذلك لا يعفينا من تجسيد بطولتهم بآفاقها الحلمية والكفاحية؛ كل ذلك الشموخ والمجد الحضاري لا يجب أن نتنكر له مقابل النزر اليسير من الفتات، بل علينا أن نتعلم من ذلك الجيل الذي أنكر ذاته ومصالحه الشخصية في سبيل الجماهير، علينا أن نتعلم منه كيف ننكر ذواتنا فنعود إلى جادة الصواب؛ لكي تلبس اليمن أبهى حللها بدلًا من هذا الثوب المقطّع الذي لا يليق بتضحيات أُولئك الأشاوس الذين كشف التاريخ عن جزء من استبسالهم ورأيناهم يصولون ويجولون في معركة الشرف والرجولة ضد الاحتلال؛ الاحتلال وليس غيره، حيث تكتب الشهادة بأتم تجلياتها وشروطها الهوياتية.

من أجل أُولئك الرجال البررة يجب ألا نرى يمناً ممزق الياقات والأكمام والأكتاف.. يمن تميد بقواربه الأمواج فيتلقفه القراصنة وتتناهشه الضباع والذئاب، ولعل قائلاً سوف يقول: إن لكل بلد ظروفه وإمكانياته وقدراته، وهذا يقودني إلى القول إن جزءا من مشكلتنا هو أننا فقدنا الكثير من الطاقة، وأهدرنا الكثير من الإمكانيات والتجارب حين لم نلتفت إلى هذا الجيل.. والأمَرُّ من ذلك والأدهى أن معظم من عاشوا التجربة وعانوا معاناة حقيقية لم نستفد مما تركوه، ولم نلقِ بالضوء على مجمل عطائهم، وتخلصت الفئات المنتصرة بشكل أو بآخر من المثقف حامل المشروع، إما بالإقصاء أو النفي أو التصفية.

ويمكننا هنا أن نتساءل: ماذا فعلنا بتاريخ قحطان الشعبي وفيصل عبداللطيف وسلطان أحمد عمر وعلي عنتر وعبدالفتاح إسماعيل وصالح مصلح، وفي شمال الوطن لماذا تم التحفظ على دور السلال وعلي عبدالمغني وعبدالله جزيلان وعبدالرقيب عبدالوهاب، وكل ضباط ساعة الصفر.
كان لا بُد أن يدرك الجميع أن الحامل الثقافي هو حلقة الوصل بين كل الفئات المجتمعية، وأن هذه الحلقة كان لا بُد من إفساح الطريق أمامها؛ لأنها تملك من قرون الاستشعار ما تستطيع النفاذ به إلى عُمق الأمام وإلى الخلف، ولو تأملنا قليلاً فيما قاله عبدالله البردوني لعرفنا أين نقف:
وكيف كنتم تنوحون الرجال؟ بلا/ نوح نموت كما نحيا بلا رشد
فوج يموت وننساه بأربعة / فلم يعد أحد يبكي على أحد
وفوق ذلك ألقى ألف مرتزق/ في اليوم يسألني.. ما لون معتقدي
بلا اعتقاد وهم مثلي بلا هدف/ يا عم ما أرخص الإنسان في بلدي".

إن الفعل الثوري الذي بدأ جماعياً -كما رأينا في المادة المصورة على الشاشات- لا بُد أن يستمر جماعياً، وأن من يقول إن ذلك الجيل قد مات وعفا عليه الزمن، فإن علينا أن نحاصره بالنشاط والكتابة ومزيدٍ من الآليات التي تفضح المشاريع الاستعمارية والدكتاتورية؛ لأن الهجوم لن يقتصر على التنكر لذلك الجيل، بل سوف يتمدد إلى محاولة الاستهتار به، والتقليل من شأن لحظته، والتواطؤ على إغفال سياقه التاريخي، إلا أن ذلك يجب ألا يُقابل بالصمت وعدم الانتباه، خاصة إذا عرفنا أن التكوينات المناهضة تلجأ إلى صناعة ثقافة مضادة تُعلي من شأن مصالحها الآنية والوقتية. وكلما أصر هذا الطرف على هتك المنابر الثقافية وأوغل في إغلاق المنصات والنوادي والمكتبات، كلما حدث ذلك كان لا بُد من البحث عن وسائل جديدة للمقاومة، وبآليات فضح جديدة لهذا الاضطراب المناوئ للفضاء العام؛ لأن ذلك لا يعني لكافة الناس سوى الارتباط بأهداف الاحتلال الذي قال عنهم "فرانز فانون" -صاحب كتاب "المعذبون في الأرض": الاستعماريون من جهة أخرى يستغلون هذا التعارض في صراعهم ضد الأحزاب الوطنية فهم يجندون سكان الجبال والقرى ضد سكان المدن، ويثيرون مؤخرة البلاد ضد مقدمتها، ويحرضون القبائل" (ص 97).
 
ولعلنا اليوم، وبعد أن فاتنا الكثير، علينا التركيز على الأجيال الجديدة عبر تنبيهها على كل ما هو في الأرشيف، ووضعه جنباً إلى جنب مع الرؤية التكنلوجية المستقبلية؛ لكيلا تُصاب هذه الأجيال بالخيبة والشعور باليأس من عدم القدرة على تغيير هذا الواقع.

ويكفي أن نعرف أن الأرشيف الاستعماري بإخراجه لهذه الوثائق وهذا الأرشيف - مرغماً- يشهد بعظمة هؤلاء الرجال وهذه الثورة، التي أدّعى بعضهم أن بريطانيا المُغتصِبة كانت في طريقها إلى تصفية مستعمراتها، وكأنهم بذلك أرادوا تكريم الاحتلال جراء تدنيسه للأرض والإنسان، لا أن نخرجهم مدحورين كما فعلت الجبهة القومية التي اتخذت قرار الكفاح المسلح في 19 أغسطس 1963 في قرية حارات أعبوس بمديرية حيفان؛ لتتجاوب مع ذلك القرار أول طلقة بندقية من ماسورة الشهيد غالب راجح لبوزة في جبال ردفان، وذلك بقيادة الجبهة القومية، التي عمل فيها عبدالفتاح إسماعيل كقائد للعمل الفدائي ضد الاستعمار، وعمل فيها قحطان الشعبي وفيصل عبداللطيف وسلطان أحمد عمر وعبدالرحمن محمد عمر وغيرهم كقادة في الصف الأول.

مقالات

لا تتركوه من صالح دعواتكم

شخصية الرئيس هادي بحاجة إلى دراسات معمقة. دراسة سيكلوجية لمعرفة الأسباب النفسية التي دفعته لتحطيم الدولة، وتسليمها إلى قبضة مليشيات متنافرة في الشمال والجنوب، متواطئا مع دول إقليمية ودولية.

مقالات

الحلم لا يموت

"نحب الحياة ما استطعنا إليها سبيلاً"، لأننا ندرك أن الحياة ليست لنا وحدنا، بل هي للذين سيأتون بعدنا. نحمل في صدورنا شمساً صغيرة، نضيء بها ظلام الأيام، وننثر في الريح قصائدنا، علّها تصل إلى أرضٍ لم تحرقها الحرب، أو إلى بيتٍ لم تهدمه القذائف.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.