مقالات
جولة صباحية في مدارس صنعاء
كنّا صِغارًا نقف على منصة الإذاعة المدرسية، أو في طوابير الصباح، نُلقي كلمات رومانسية عن الطبيعة ولا يخلو يوم إذاعي من تعبير" زقزقة العصافير". كان تلاميذ المدرسة، يتدربون على الوقوف أمام زملائهم، ويدربون أذهانهم على وعي الحياة. كانت مواضيعهم بسيطة ومكررة؛ لكنها في خلاصتها، محاولة رائعة؛ كي يتمكن النشء من ترتيب الكلمات، واتقان فن الكلام. اعداد أنفسهم لمواجهة الوجود الكبير في الغد المنتظر.
أظن كل من سيقرأ هذه الكلمات، لا بدّ أنه انتظم اثني عشر عامًا في مدرسته، وكان كلّ ما تلقاه: تعابير لطيفة، عن الأمل، التفاؤل، ومبادئ الصدق والأخوة...ماذا قال الله في الكتاب السماوي" القرآن" وماذا قال نبيه. ثم ماذا يحوي تاريخ العرب وشيء مما في آدابهم وطرائفهم. لكن كل هذا صار أشبه بتاريخ يتقادم كل عام، وصارت منصة الإذاعة المدرسية في مناطق سيطرة السلالة الحوثية، نافذة تفوح منها رائحة الطائفة وحائط مصبوغ بخرافاتها القاتلة.
مرات كثيرة أمرّ بالصدفة جوار مدارس مختلفة في العاصمة صنعاء، ولم أسمع سوى تلاميذ يرددون أفكار ومعلومات وتواريخ، كلها متصلة بالمدونة المذهبية للجماعة الحوثية. الأمر ليس متعلقًا بمناسبات معينة. بل تكاد تكون كل أيام السنة الدراسية، يصدَّح فيها طلاب المدرسة بأفكار السلالة. أتذكر أيام المدرسة، وأشعر بفارق مهول بين هذه اللحظة وتلك.
يتساءل تلميذ: متى كان تاريخ ميلاد الحسين، وما هي صلة القرابة بينه وبين النبي..؟ من الذي قتل الحسين..؟ ويأتي أخر ليسرد قصة عاشورا..؟. وأخر يتلو شعرًا، ظننته سيتلو إحدى قصائد البردّوني الخالدة، وتفاجأت به يتلو شعرا، ل: علي بن أبي طالب. وما كنت أدرك أنه محسوب على الشعراء، ولا أتذكر في كتب المدرسة شيء من الشعر للخليفة علي بن أبي طالب. وهكذا، وهكذا يدور التلاميذ الصغار في كل فقراتهم الإذاعية، حول مساحة صغيرة، صغيرة جدا من الفضاء الثقافي والمعرفي للعالم.
ما يبدو غريبًا، هو تماثل مضامين أغلب الفقرات الإذاعية؛ كأن من يُعد للتلاميذ الصغار مشاركاتهم الصباحية هو المشرف الحوثي. أو أن معلمي ومعلمات العاصمة، خاضعون لتوجيهات توصي الطلاب أن يلتمزوا بخرافات السلالة واهتماماتها الكارثية.
لقد وصل الأمر بالسلالة الحوثية، أن تُفسد منابع الحياة كلها، ليس بدوراتها الثقافية الخاصة، ونشاطاتها المتواترة لغسل أذهان الأجيال. حتى تلك المساحة الصغيرة في إذاعات المدرسة، صارت محتلّة، ولم يعد للتلميذ، أي هواء حر يستنشقه أو يقول فيه كلمة صافية، تشبه قلوب الأطفال.
أيّ روح فاسدة وعقل تربوي بلا أخلاق، يمكنه أن يتجاوز قصيدة البردوني:
لي موطن لا ذرة فيه ** على الأخرى تهون .
الأرض نفس الأرض **لكن الجحيم الآخرون .
لا تكثرت يقع الذي **لايدّعي المستطلعون
من أي نبع أنت ؟**من ياء..ومن ميم..ونون .
ويستبدلها بنظم باهت، منسوب للإمام علي، رضي الله عنه. ثم يوصي التلميذ أن يتلو في الصباح، هذه الأبيات الفائضة بالعنف:
أَنا الذي سمتني أُمي حيدره **
ضرغامُ آجام وليثُ قسوره
عبلُ الذراعين شديد القصره **
كليث غابات كريه المنظره
على الأعادي مثل ريح صرصره**
أضرب بالسيف رقاب الكفره
ضرب غلام ماجد حزوره **
من يترك الحق يقوّم صغره
أقتل منهم سبعة أَو عشرة **
فكلّهم أهل فسوق فجره.
بالطبع لسنا في معرض المفاضلة بين البردوني والإمام علي، ولا هو فرز طائفي؛ بل التدليل على هذا المسخ الخطير للوعي. المعايير المختلة في بناء المناهج. حيث كل ما ينتمي لميراث الطائفة _حسب ما تزعمه لنفسها_هو الأرفع قيمة والأنسب وكل ما عداه ليس مهمًا للأجيال ولربما لا تحتاجه عقولهم.
وحتى حين يتجاوز المرء، الصبغة المذهبية لكلام التلاميذ، ويحاول تقبّل كل ما يصعد من ميكرفون الإذاعة، بعيدا عن أي تفتيش في خلفية الكلام. يبقى هناك الذائقة الحرة والمحايدة، ذائقة أي إنسان لا يعلم عن طبيعة السلطة الحاكمة في صنعاء، لا بدّ وأن تنفر بالفطرة مما يقال.
حيث الجريمة، أن تحشو آذان البشر في الصباح بكلمات متوترة، عنف لفظي متواصل، أنت هنا لا تُلوث قلوب الأطفال فحسب؛ بل وتُفسد الزمن كله. تُحيل الصباح كابوس مخيف، للصغار والشباب وحتى الكهول. "أضرب بالسيف رقاب الكفرة" وكأن ساحة المدرسة، هي أرض معركة بدر، أو أن التلاميذ في معسكر لتعبيئة الجنود للقتال.
فليعتذر العالم لتلاميذ المدارس في صنعاء. آسف أيتها الوجوه المشعة بالبراءة. فلا مكان لكم اليوم، للتغني بعصافير الصباح كما كان يفعل أقرانكم في الزمن القريب. فالقدر اللئيم، جردكم من تلك المساحة اللطيفة، حيث الحياة فسحة للمرح والبهجة، ومنحكم مفردات أخرى: السيف والقتل، الكراهية والفسوق، وكل ما يغمر أذهان التلاميذ بالوحشية والعماء الأبدي.
الأمر لا يتعلق بحساسيتنا من أفكار الجماعة الطائفية فحسب؛ بل يتجاوزه نحو خطورة أكبر، هي: تعطيل الشروط الأساسية لقيام مجتمع حديث. هذا ما يتسبب به الحوثي. ما يعني أن دوام سلوكها، سيلغي إمكانية تأسيس دولة لعقود طويلة قادمة.
ما يقدمه الحوثي ليس احلال رؤية جديدة مكان رؤية سابقة؛ فما تملكه الجماعة لا يرقى لمستوى التصور الوجودي الشامل للحياة. وعليه فهو لا يتعدى كونه خليط مشوّه من الأباطيل، تصورات عقائدية مبتورة تصل خطورتها؛ لتعطيل عقول الأجيال وليس تسميمها فحسب.
السلالة الحوثية، لا تحاول تلويث عقول التلاميذ بروحها الطائفية؛ بل تمارس تخريب نفسي وذهني يعيق نشوء العقل البشري بشكل متزن، صحيّ وفعّال. هذا التلميذ الذي يتغذى خياله طوال العام، بحكاية الحسن والحسين وفاطمة الزهراء ومالك الأشتر. لن يكون قادرًا على التفاعل مع مفاهيم: الديمقراطية والتعددية والإرادة الحرة ولن يفهم شيئًا عن فكرة "المواطنة" سيكون مستعدًا للموت انتصارًا لرؤية السيد ولن يتردد في الغد عن غرس خنجره في عنق من يعارضه.
الخلاصة:
لدى جماعة الحوثي وقاحة تاريخية مخيفة، إنها ماضية في السيطرة على النشء وتثبيت سلطتها بشكل جذري. يتمتعون بعزيمة واصرار غريب وفعال وغير قابل للمراجعة. لا تكترث لأي صرخات رافضة لنهجها، وتعتقد أن بمقدورها التصميم على رغبتها ولسوف تتمكن في النهاية من تمريرها ككل سياساتها الأحادية. هي تعلم أن سيطرتها العسكرية تظل مجرد سيطرة فوقية غير مضمونة، وترغب بتأثيثها بواسطة التعليم.
الحوثي يسطو على حاضرنا ويمنح نفسه حق صياغة المستقبل. نحن الآن أمام حرب السيطرة على التصورات الأساسية للحياة.وهذا هو العار الأكبر. حيث العاصمة صنعاء، تحولت لمساحة لتوليد ملايين من النشء، لا يفقهون من معارف الكون، سوى ما تفوح به قمصان السلالة، وباقي الوجود مساحة مظلمة. إلى متى..؟ إلى غد لا نعلم عنه شيئًا.