مقالات

حديث عن النفس البشرية...

31/08/2021, 16:58:38
المصدر : بلقيس - خاص

لطالما كانت "النفس البشرية" فكرة مؤرِّقة لي، ما هذه النفس؟ ما الذي يتحكم بها؟ لماذا هذا الشخص طيّب وذاك شرير؟ لماذا أنا الآن منبسط وبعد قليل قلق؟ كيف تجري تلك التحولات الباطنية؟ وهكذا وهكذا، أحاول مراقبة النّفس في كل ما حولي وبشكل دقيق، أتتبّع انفعالاتها، أفحص ردود أفعالها، وأرافق تحولاتها بشكل دائم. 

البداية من نفسي، فكلّما تمكّنت من قراءتها، وفهمها أكثر، كانت علاقتي بها صحيّة، وقدرتي على التحكّم بها عالية. ولتحقيق الغاية هذه، أحاول دوماً الاستعانة بكل ما أصادفه؛ كي أطوِّر وعيي بنفسي، وأخوض الرِّحلة بطريقين متوازِيين، طريق تأملي ذاتي، أحرص فيه على قراءة كل ما يعتمل في أعماقي وبشكل دائم، أتوقّف معها وأعيد التوقّف على امتداد الزمن. 

وطريق ثانٍ، معرفي/ ثقافي، أتتبع فيه كل ما يكتبه ويقوله العالم حول النّفس، أفتش فيه، وأطّلع عليه، وأحرص على سماع قصص من حولي، وتتبع سلوكياتهم باستمرار، وهذا بالطبع مصدر عملي آخر لفِقْه النفس، أستعين به؛ كي أضاعف من وعيي بذاتي وبالآخرين، والذات هنا استعارة أعني بها "النّفس"، ذلك الغامض المجهول. 

لعلّ أحد أوهام الإنسان الكُبرى هو اعتقاده الخادع أنه يفهم نفسه جيدا، هذا الوهم هو أكبر مصادر الضلال، وحجر الزاوية في كل اختلال، قد تصاب به النّفس في خضم احتكاكها بالحياة، وفي الحقيقة نحن لا نفْقه من أنفسنا إلا قشورها الخارجية، والذكي فينا يبلغ نفوذه درجةً أعمق بقليل نحو الطبقة الداخلية للنّفس؛ لكن لا أحد يمكنه أن يزعم أنه محيط بنفسه بشكل دقيق، ووضوح شديد، مهما حاول أن يُبرهن على ذلك ويدّعيه. 

سيقول قائل -ومعه حق بذلك-: أنت تبالغ في تلغيز النّفس، لدرجة أنك تُنكر على الإنسان وعيه بنفسه. والحق أنني لست أنا من يفعل ذلك، كما لا أشكك بقدرة الإنسان على إمكانية فك شفرته الداخلية؛ غير أن طبيعة الشفرة بذاتها ليست شيئاً جاهزا ومكتملا ومحدداً بصورة قطعية، طبيعة النّفس ليست بنية قابلة للإمساك، ولا ماهية تمتاز بالثبات. إنها حالة من الصيرورة المستمرة، لا أحب كلمة "صيرورة"، وأراها جافة قليلًا، لهذا أقول: النفس أشبه بنهر متدفّق، حالة جارية، أكثر منها مادة قارّة، أو شيئا قابلا للتحديد الصارم، مهما بلغت عبقرية الإنسان، ورغبته بالقبض النهائي عليها.

والحال هذا، لا يتبقّ أمام الإنسان سوى مسلكين لإدارة هذه النفس بشكل ناجح. الأول: الاعتراف بأنها لغز منفلت، والإقرار بتواضع معرفتنا بأنفسنا ومحدوديّتها. والثاني: أن يجتهد لفهمها، وإعادة فهمها باستمرار، عليك أن ترافق نفسك طوال الطريق، وكلّما صادفت فكرة تضيء شيئاً في نفسك توقف معها، حين ينتابك شعور ما، حاول أن تحدِّق في أعماقك، وتجتهد لفهمه، وهكذا، على امتداد زمن الرِّحلة، تعامل مع نفسك كأنك تلميذ لديها، تلميذ مجتهد يتابع كل ما تفيض به النّفس، ويمنحها الوقت الكافي؛ كي يفهمها كما يجب.. هكذا تضمن النّجاة، وتقلِّص كل خطر مُحتمل لأبعد مدى مُمكن، فلا تختل نفسك، ولا تفقد سيطرتك عليها فجأة. 

مبدئياً، أظنّ كل إنسان في الحياة هو طبيب نفسه، وليس بحاجة لأحد؛ كي يستعيد عافيته، هذا -وكما أسلفنا- حالما كانت علاقتك بنفسك مرتّبة جداً، وواضحة. إلا أن مشكلة الإنسان تكمن في خداعه لنفسه، أو عدم فهمه لما يدور داخله، أو إهماله الطويل لها. نحن نعاني من تراكمات نفسية، وميراث طويل ومرهق من الأحداث المكدّسة في زوايا النفس، دونما فهم ولا غربلة. 

لا تختل النفس البشرية فجأة، وبدون مقدِّمات، يبدأ اضطرابها من بعيد جداً، بدايات لا تدركها، محطات مرّت بك، ولم تتوقف معها، حزن لم تبوحْ به، غضبٌ لم تعبِّر عنه، مخاوف لم تواجهها، أحلام لم تصل إليها، كل ما تراكم داخلك من حطام يتكدّس حتى تجد ذاتك منفصلًا عن العالم، وعلاقتك بالخارج متوتِّرة. 

إذا أصيب المرء بحمّى، أو جرح أصبعه في المطبخ، سرعان ما يستشعر الخطر، ويبحث عن شيء يُعيد لجسده الصحة، ويخلِّصه من الألم، لكننا لا نتعامل بالحساسية والانتباه نفسيهما، إزاء ما تتعرّض له نفوسنا من كدمات، جرح من هنا، أذًى من هناك، إهانة في مكتب العمل، فُقد عزيز فجأة، شعورك بالعجز أمام أطفالك، إحساسك بالنّبذ في مجتمعك، قول رجل لكِ: لستِ جميلة، رفض امرأة أن تحبك، خوفك من الغد، كل ما يدور في نفسك لوقت طويل، هكذا تنمو مشاعرك ببطء، وتستمر أنت في الهروب إلى الأمام، ومع الأيام تبدأ سلوكياتك في التغيّر، وصولًا للحظة تغدو فيها نفسك خارج قدرتك على السيطرة. 

الخلاصة: مشكلة الإنسان بشكل عام -واليمني بشكل أخص- أنه مثقل بمتاعب الحياة المادية، وهو ما يجعله يغفل عن احتياجاته النّفسية، مع أن الأخيرة هذه -غالباً- لا تتطلب منه الكثير؛ كي يفيَ بحقوقها، يكفي أن يطوّر وعيه بها، كي يتجنب متاعبها. بل إن المرء، وكلّما كان أكثر رعاية لنفسه، سيتمكّن من مغالبة قساوَة الحياة المادِية، بسهولة أكبر وتكلفة أقل.

مقالات

أبو الروتي (3)

(لحظة انطلقت بنا السيارة شعرت بأنّي كبرتُ، ولم أعد طفلا) فيما رحت أتقدّم باتجاه بيت جدي علي إسماعيل، تذكّرت كلام جدتي، وهي تودّعني عند مشارف القرية، وتقول لي:

مقالات

المساندة لكيان الاحتلال والأكفان لفلسطين!

منذ البدء؛ اختارت الكثير من الأنظمة العربية توزيع الأكفان في غزة. كان ذلك يختصر كل شيء: نتنياهو مطلق اليد، يتولى ذبح الفلسطينيين، بينما ستحرص هذه الأنظمة على أن يكون تكفين الضحايا عربياً خالصاً!

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.