مقالات
حرّاس الفضيلة.. القدماء الجدد
تكمن مشكلة "حرّاس الفضيلة" أنهم يعتقدون مبدئيا أن الناس بطباعهم الحرة منحرفون ويتوجّب إصلاحهم، لهذا يتعاملون مع كل مظاهر الحياة الطبيعية كأنّها صيحة ضد الله والدين والأخلاق.
إنهم يفترضون انحطاط البشر لمجرد أنهم لا يعيشون بالصورة الحرفية نفسها لما يفترضونه دينا.
لا تكمن المشكلة في التصوّر الديني المتشدد لدى هؤلاء الذين يناهضون الحياة ويحوّلون الدين لمصدر ترهيب للناس؛ بل في انحرافهم الصادم عن منطق الدّين نفسه. لدرجة أنهم يدفعونك إلى التساؤل: ما مصلحة هؤلاء في تحريض الناس ضد الدّين..؟ هل هو الغباء المتأصل فيهم أم أنهم صاروا جنودا لدى الشيطان، ولو داوموا على التنسك في محراب الله ألف عام؛ لكن سلوكهم ومواقفهم تفضحهم بسهولة؟
يفترض الدين الحق أن الإنسان بطبعه خيّر وأن الشر عارض؛ لكنهم يفترضون العكس، ولهذا يندفعون بهوس غريب إلى الصراخ ضد أبسط مظاهر الحياة الطبيعية مهما كانت مهذّبة ومتناغمة مع جوهر الدّين.
كل فلسفات الكون، العقلية والروحية، الوضعية منها والسماوية، تكاد تُجمع أن الإنسان يتمتع بطبيعة أولية هي بمثابة معيار داخلي يحدد له ما هو صواب وخطأ، قد تتعرّض هذه الطبيعة للزيغ والتشويش، غير أنها تظل في مجملها حاملة لمعيار باطني، لئن لم يكن متطابقا تماما مع جوهر الأخلاق الدّينية، فهو ليس نقيضا كليا لها وفيه دوما نواة صالحة وميولا ينزع نحو الأخلاق.
ومع أن الأديان توصي بضرورة وأهمية التقاط هذه البذرة وتنميتها وإسنادها، تجد رجال الدين يشتغلون بطريقة مقلوبة، ويشعرون بنشوة في محاصرة الناس والمسارعة بتجريدهم من الأخلاق، كنوع من الدّعوة إلى لله. وكأن الله صار يقف على الضد من الأخلاق، وربما هم من صاروا في الجهة المقابلة وليس المجتمع العادي، ونشاطات الحياة المنسجمة مع كل قِيم الوجود.
منذ ما بعد ثورة 11 فبراير، وما بين الفترة والأخرى، تتصاعد أصوات هؤلاء الساخطين ضد كل شيء، ويصوّرون المجتمع كأنّه صار في معظمه خارجا عن قيم الحياة ومنذرا بخطر داخلهم. وكلّما مر الزمن يجدون أنفسهم منبوذين أكثر، تواصل الحياة تدفقها وتتجاوزهم جميعا. وبدلا من مراجعة خللهم الذاتي، طريقتهم في الدعوة إلى الله، يواصلون الهروب من أزماتهم الداخلية بمضاعفة الصراخ خارجهم.
إنهم يحلمون باستعادة سلطانهم المعنوي المفقود، ولو بإثارة الفوضى واستجلاب مزيد من السخرية لأنفسهم.
لست ممن يحمل ضغينة لهؤلاء، ولا أحتفظ بدوافع ناقمة عليهم، كما أحلم بالوصول إلى صيغة حياة يحتفظ فيها المتدّين بروابطه الروحية دونما توتر في المجتمع؛ لكنهم يؤكدون لنا ميولهم إلى الاشتباك مع الجميع، واستثارة أحقاد الناس ضدهم، حتى أكثر الناس تصالحا مع الدين لا يسلم من أذاهم. ما يجعلك تتيقن أن الأمر يتعلق بمشكلة جذرية لديهم لا يجدي التسامح معهم؛ كي يدفعهم إلى التعافي منها. وهو ما يُوجب محاصرتهم، ومنع أحلامهم باستعادة دورهم القديم.
لقد أعاقوا الحياة طوال العقود الماضية، وما زالوا يحلمون باستدامة سلطتهم، ولو كان ذلك بصراعهم ضد التاريخ وقانون التقدّم، بل والطبيعة البشرية بكلها.
لو أن العديني، أو أي رجل دين آخر يشعر بالحزن مما آل إليه المجتمع -ذلك الميول الطبيعي في أساسه والمنحرف بحسب ما يراه العديني وغيره- لو أنهم امتلكوا الشجاعة وقرروا الجلوس مع أي رجل من هؤلاء الذين يتصوّرون مع زوجاتهم، لوجدوهم أناسا على درجة عالية من النبل والاستقامة الطبيعية. بل ربّما كانوا متدينين بطباعهم، وخجولين، ولا يحبون الأذى. لكن من يقنع العديني بذلك، هل ما يزال الرجل يملك الأهلية النفسية لمراجعة مواقفه تجاه الناس والتوقف عن صرخاته ضدهم، بشكل ذاتي؛ كي ينهي هذا الفصل الهزلي من الحكاية.
العديني مُلزم باحترام الحريات الشخصية، سواء اقتنع بذلك أو بقوة القانون، ونحن هنا لا نتودد إليه كي يكف أذاه عن الناس. لكننا نود أن نكشف له كم هو في ضلالة من أمره، وكم هم الناس مخلّقين ولديهم ميول عفوي إلى الحياة النزيهة، في الوقت الذين يرهق الرجل نفسه في مصارعة العدم، وينساق خلف تخيلاته الفاسدة، يغضب دونما مبرر، ويواصل معركته ضد طواحين الهواء.
الخلاصة: من الواضح أن دوافع "حرّاس الفضيلة" ممن يتعمّدون تنشيط الصدامات القسرية بين المجتمع والدِّين هم لا يفعلون ذلك دفاعا عن الأخلاق، بل حماية لتصوراتهم المتآكلة، إنهم يشعرون بتهديد خفي لا يعلمون مصدره، ويطلقون النار بشكل عشوائي، بدلا من التوقّف مع أنفسهم، ومراجعة مصادر قلقهم الخفيّة.
هذا النوع من التدين يُسمى بالتدين الدفاعي، وهو ما يجعل أصحابه يشعرون بالتهديد من التجاوزت الأخلاقية للآخرين، حتى لو لم يكن الآخرون كذلك. فيما التدين الوجودي أمر مختلف، إنه يستمد تصالحه مع الحياة من داخله، نابع من إيمان هادئ مستقر، يتعامل مع البشر بدوافع ذاتية حرة، ويتساوون عنده في الإنسانية مهما بلغت إساءاتهم. فيما النوع الأول، وهو التدين الذي يتصف به العديني وغيره، إيمان قلق، متوتر تجاه الجميع، يتصرف بشكل ناقم. إذ لا بُد من السخط عندما يوجد سلوك يهدد بقاء الجماعة.
من هنا تنبع أزمتهم، فيثورن على الناس، لأن المتجاوز -بحسب وعيهم لمفهوم التجاوز والانضباط- يقلل من قيمة الصابر عند نفسه. وليس بالضرورة لكونه انحرف عن الأخلاق، فهو لم يزعج الله؛ بل أثار حفيظة الصابرين وأوحى لهم أن جزءا عريضا من التزاماتهم بلا قيمة أساسية، إنها أمور هامشية، فسواء خرجت المرأة بلباس يُغلق حتى منافذ عيونها، أو ببنطال وفنيلة وشعرها منفوش في الهواء، فليس في الأمر موبقة كبيرة، ولا أظن جوهر الدِّين يتعلَّق بقطعة ثياب تخفي شعر المرأة من عدمه.
لا يقول بذلك إلا كل متدين بائس، حتى لو كانت تلك قناعته. فما من عقل متزن، مقتنع بذلك أو بالعكس، إلا وسوف يميل إلى منح الموضوع قيمة عابرة، ويعيد إلى الدين جوهره القيمي الأساسي: الحرية، هذا المفهوم الواسع والمرعب والمركزي، قبل الدّين بل وقبل الأخلاق، وبدونه لا تستقيم الحياة، ولا يمكن تأسيس حتى الأخلاق.