مقالات
حرب بلا أفق
إذا ما سألت أكثر الأشخاص متابعة واهتماماً وتفحصاً لمسار الحرب اليمنية: أين وصلنا، أين نحن الآن، ما الذي علينا انتظاره..؟
سيقول لك لا أدري، و"اللأدرية" هنا مذهب وجودي في الفلسفة، يحيل للتيه والحيرة وانعدام الرؤية، على أن انعدام الرؤية هنا هي رؤية موقف وجودي له فلسفته وأدبياته وما يشرعنه، غير أن الفكرة حين تنسحب نحو ميدان السياسة تصبح فضيحة وتعبيراً عن عجز وفشل.
من الطبيعي أن تلفّ الأحداث غموضاً ما في بعض تفاصيلها، غير أننا في الحالة اليمنية لا يبدو الغموض صفة عرضية، بل جوهر الحكاية كاملة، وكأننا أمام قصة لم يعد يدري أحد كيف وصلنا إليها، أو كيف يتوجّب الخروج منها، والغموض هنا ليس غموضا متعلقا بشرح الحكاية، فهذا أمر ممكن، بل غموض مصيرها، تشابك خيوطها، وعجز وارتباك كل أطرافها عن الإمساك بشفرتها، والتحكم بمسارها.
في البدء كانت الشرعية والتحالف يتحركان دونما رؤية واضحة، كان ذلك أمراً مفهوماً بالنظر لطبيعة الأحداث المباغتة؛ لكن هذا العمى لم يكن صفة للبداية، بل استمر كما لو أنه قدر حتمي، وكما لو أن أطرافه الفاعلة فقدوا بصيرتهم تماماً، وربما بلا بصيرة.
في كل فترة يعلنون تحركاً معيناً، ويطلقون عملية هنا وهنا، ويوحون للناس كما لو أنهم أمسكوا خيط الأحداث، وباتوا مسيطرين على المسرح، ويعرفون كيف يقوّضون خصمهم، ثم يتلاشى هذا التحرّك في ظرف قصير، ما يزيد الأفق انسداداً ويؤكد التيه والشتات بأكثر مما يبدده.
لو قعد باحث ليحصي عدد العمليات والبيانات والانطلاقات الصغيرة، التي دشنها التحالف والشرعية منذ بداية الحرب؛ لعجز عن سردها ناهيك عن تتبع مآلاتها ونتائجها وكوارثها، لدرجة أنها تحوّلت لمصدر سخرية، تعكس فقدان الناس لأي استعداد للتعامل بجدية مع تحالف يدير الحرب بعقلية تلميذ ابتدائي، يكتب ويمسح وهو غير واثق من صحة ما يفعل.
من البديهي القول إن طريقة التحالف في إدارة عمليات الحرب ليست فقط فاشلة في إنجاز الهدف، بل يبلغ ضررها أنها تستنزف طاقة الناس المعنوية، وتجردهم من أي قابلية للاحتشاد جوار المعركة، حتى في اللحظة التي يكون الهدف جاداً، يتعامل الناس معه بتراخٍ، ذلك أن من يقف خلف هذا التحرّك لم يعد يحتفظ بأي رصيد ممكن ليتجاوب معه الناس، لقد استنفدهم في مواضع كثيرة، وترك خلفه خيبات كثيرة، ومجتمعا شاردا، وتحالفا يرغي ويزبد ثم يعود إلى المنام مرّة ثانية.
معركة شبوة الأخيرة، الضربات المكثفة على صنعاء، فتح جبهة حرض، وكل الترتيبات التي أوحت للناس كما لو أننا أمام بداية جديدة، سرعان ما خفتت واستيقظ الناس أمام حيرة جديدة، معارك تحتدم ثم تبرد، كما لو أنها نشوة مزاجية لحظية، ثم تتلاشى بهدوء، قبل أن تستكمل أي هدف حاسم يؤكد أننا أمام خطة مدروسة وليس لعبة متذبذبة لا نهاية ولا أفق واضح لها.
يتحرّك التحالف بعقلية جبرية، ينتظر مفاجآت الأحداث محليا وإقليمياً ودولياً، ثم يحاول التحرك وفقاً لإفرازاتها.
وهذه عقلية لا تنتظر منها صناعة مصير وفرضه كما يجب، بل نحن أمام سلوك خائر ومتردد، عقل سياسي مصاب بمحنة الانتظار، غير مؤهل لصناعة التاريخ، بل يصدّر نفسه كذيل هامشي، يتذبذب وفقاً لمؤثرات خارجية، ولا يعرف كيف يتحكم بالمسار برؤية واقتدار.
يشرح المفكّر الجزائري، إسماعيل مهنانة، طبيعة تفكير وسياسة العقل العربي بطريقة فلسفية متهكمة، يبدأها بتوضيح كيفية عمل العقل في القرون الوسطى، يقول:
"هيمنت الكنيسة على العالم الأوروبي لأكثر من عشرة قرون، لأنها نجحت في ترسيخ عقيدة الانتظار والقدرية في الشعوب، في القرن الأخير منها، وقبل الطاعون الذي أهلك أوروبا سنة 1381، ظهر جدل لاهوتي عقيم حول "مبدأ الحرّية" (هل الإنسان حرُّ أم مُجبر، مُخيّر أم مسيّر؟)، ولقرن من الزمن ظلّ الجدل حبيس الحجج الكلامية والحجج المضادة؟".
حتّى انشقّ الفيلسوف والراهب الفرنسي "جان بوريدان" عن عالم الكلام إلى عالم الواقع والتجربة. قدّم بوريدان للعالم أوّل تجربة حسّية حين وضع حمارا جائعا وعطشانا، في نقطة بين العلف والماء وعلى المسافة نفسها لكي يختبر هل سيختار الحمار إحدى الجهتين أم سيبقى واقفا، مترددا، حتى يهلك، كما يفعل الديمقراطي الأخير في عالمنا المسمّى عربي.
تقول كُتب اللاهوت، التي شاهدت تجربة بوريدان، "إن الحمار بقي مترددا بين العلف والماء حتى هلك، ولا نعرف إن هلك من الجوع أم من العطش".
بعد تجربة بوريدان تنبّه علماء وفلاسفة أوروبّا إلى مفتاحين من مفاتيح الحداثة، الأول معرفي، مفاده أن التجربة العلمية في الواقع وحدها تستطيع أن تحسم الجدالات اللاهوتية البيزنطية التي ظلّ العالم يسبح فيها لقرون بلا أي نتيجة، والمفتاح الثّاني سياسي، ومفاده أن الإنسان الذي يستسلم للقدرية والجبرية اللاهوتية ولا يمسك بقدره بين يديه فيقرره سيكون مصيره الهلاك مثل حمار بوريدان، لهذا قامت كل الفلسفة السياسية الحديثة على مبدأ "حريّة الاختيار والفعل".
ولهذا يسهل التنبؤ بمصير التحالف والشرعية، الهلاك، أو الترديد بعد كل معركة: لا أدري، لا أدري.
"دع المقادير تمضي في أعنتها ولا تبيتن إلا خالي البال".