مقالات
حزب الجماهير يحتفل
قبل أيام، احتفل حزب المؤتمر بالذكرى ال40 لتأسيسه، إنه حزب الجماهير، يقول هذا عن نفسه، ويواصل احتفاظه بالصفة قسريًا، ولا يدري المرء، ماذا صنع هذا الحزب لجماهيره أو بهم. لكأن جماهيريته هبة إلهية، كانوا وما يزالون متأهبين للسير خفه متى احتاجهم. لقد ضمن الحزب بخيال لاواعي موثوقية علاقته بجمهوره، مهما كان سلوكه السياسي صادمًا، ومبررًا ليفقد كل من كانوا يدورون في فلكه.
يتوهم المؤتمر أنه ما يزال يملك تلك القدرة على التصفير لجماهيره؛ كي يحتشدوا للسبعين أو أي ميدان أخر، فيما هو قد فقد التواصل كليّا معهم. لقد تبعثر وتاهت حشوده وقيادته معًا، وهو يلعب الآن بلا قاعدة ولا رأس ضابط للمسار؛ لكنه يعجز عن فهم طبيعته.
من المعروف أن شعبية أي حزب سياسي ليست رباطًا أبديًا، نابع من تعهد مسبق بديمومة العلاقة مهما تبدلت الظروف، بل هي ولاء مشروط بالفعل والثبات على مبادئ الحزب، وما لم ينتهج الحزب سلوكًا يضاعف ولاء جمهوره، يكون عرضة لفقدان الثفة ويتحلل الناس من انتماءهم له، متى خيب أملهم. هذا هو شرط اللعبة الحزبية، وما لم تكن كذلك فهي تفقد جوهر صفتها المدنية وتغدو رابطة هوياتية ثابتة، من البدهي أنها غير متوفرة في حزب المؤتمر.
في الواقع، لم يكن المؤتمر حزبًا منظمًا على طريقة الأحزاب الوطنية التابعة للزعامات، كان خليطًا من الشعبوية والجماهير المتحلقة حول رمزية الزعيم. حتى أنه يفتقد للبنية المؤسسية للأحزاب المشابهة له في دول أخرى. ولهذا يبدو من الطبيعي، عجزه لا عن معاودة ترتيب نفسه والصعود بنفس اللافتة أو حتى لافتة بديله؛ لكنه مع ذلك ما يزال يحلم وهذا هو المهم في الموضوع.
لا أحد يناهض محاولة حزب لملمة نفسه واستعادة فاعليته، مهما كنت تقف على طرف نقيض مع توجهه، ففي المجمل يظل وجود قوة مدنية تؤمن بالقيم الأساسية للدولة وطريقة تنظيم المجتمع، مكسبًا كليًا للبلاد، وفي حالة اليمن، وهي مكشوفة لقوى مليشاوية تتنازع مصيرها جنوبًا وشمالا، تكون محاولات ترميم الأحزاب لكياناتها أمر طيب، على كل حال.
لكن هناك فرق بين محاولات جادة وممكنة، تقوم بها أحزاب تملك أهلية وجاهزية لتعزيز نشاطها وبين أحلام هشة ومحاولات خجولة تفتقد لعناصر التحقق واقعيًا، ووضع المؤتمر الشعبي العام أقرب للحالة الأخيرة، منه للقدرة على تجاوز ارتباكاته وتعزيز الحالة الحزبية، مهما كانت أمنياتهم وأمنيات المؤمنين بالعمل المدني راغبة بذلك.
في الحقيقة، علينا مكاشفة أنفسنا بواقعية مرة: ليس لدينا أحزاب حقيقية في هذه البلاد، ولا يمكن اتخاذ المليشيا المنتفخة هنا وهناك؛ كمبرر وحيد للحفاظ على أوهامنا بأن لدينا قوى حزبية محترمة وتشتغل للحفاظ على الطابع الحديث للدولة وتنظيم المجتمع بطريقة مدنية، وعليه، لا جدوى من مخادعة أنفسنا وتبادل المجاملات التضليلة في المناسبات. والأهم أن هذه المجاملات والبرقيات التي تعول على هذا الحزب أو ذاك، وتكيل له المدائح في ذكرى تأسيسه، لا يمكنها تغطية الواقع المرير للحزب وقدراته وتواصله الفعلي مع جماهيرة وقدرته على تجميع القوة المجتمعية بشكل يسهم في استعادة الدولة والحد من سطوة المليشيا. بل ع العكس من ذلك فوضع المؤتمر وخمول نشاطه الحزبي بل وخياراته السياسية الكارثية، صب وما يزال يصب في تعزيز الحالة المليشاوية في البلاد.
لدينا مليشيا، نعم. وأحزاب خدمتها بطريقة مباشرة وغير مباشرة. نعم . بالأمس أسهم " حزب الجماهير" بتخفيف الصورة الكارثية لسطوة مليشيا الشمال على الدولة، واليوم يلعب الدور ذاته ويسهم بتلطيف صورة مليشيا مماثلة في الجنوب. ثم نتحدث عن أحزاب وطنية، ولا نخجل من المآلات التي قادتنا لها.
الخلاصة: يعتقد المؤتمر أن الفرصة مواتية؛ كي يعاود الامساك بالسلطة من جديد، أوليس هو الحزب الذي يحوي بداخله أكبر كتلة بيروقراطية من مسؤولي النظام السابق، إذا فليحشد قواه ويبسط. إنه لم يستوعب الدرس بعد، حاول فعل الأمر ذاته مع الحوثي، وكانت النهاية كما تعلمون رأس زعيمه. هذه المرة يلعب اللعبة ذاتها؛ لكن في الجهة المقابلة، في مسرح الجنوب، يوفر غطاءً لمليشيا، ليست فقط أقل تماسكًا من الحوثي؛ بل وأكثر عبثية وهشاشة.
وإذا ما كان الحوثي بطبيعته، متوحش في قمع خصومه، فالإنتقالي ناقم وبطريقة غوغائية، توحش منفلت بلا قدرة إدارية على ضبط نفسه. هو لن يتحالف مع المؤتمر علنيًا ولا ضمنيًا، كما فعل الحوثي في بدايته؛ لكنه يستمر الرضى الباطني لدى المؤتمر على تحركاته، حتى ينجز مهمته، وسوف يصمت عنهم فترة، ثم حين يشعر أنه استكمل بسط سيطرته على الجنوب، سيبدأ في نبش سياسة النظام السابق في اقصاء الجنوبيين، ويتخذ من ذلك ذريعة لمضايقة كل مسؤول مؤتمري، كان يأمل أن يجد له مقعدًا لدى مليشيا. مليشيا ضاقت بأبناء الجنوب أنفسهم، وشركاء القضية ذاتها، فكيف ستقبل من تعتقد أنهم كانوا سببًا في بلايا الجنوب. المؤتمر ونخبته التائهة.
لا أحد يلعب مع المليشيا؛ لكن المؤتمر يفعلها بتراخي غريب. تتحرك المليشيا لدوافعها الخاصة في الجنوب، ويتوهم المؤتمر أن بمقدوره خفض نزعتها المتطرفة، عن طريق مهادنتها ومباركة سلوكها. إنه بذلك يصون منطق الوحدة، حين يمتنع عن مناهضة اجراءات الانفصال. ولهذا فدهاءه السياسي؛ يُحتم عليه عدم وصف ما يحدث بالسلوك الانفصالي، يتوهم أن امتناعه عن وصف الأمور بمسماها؛ سيعطل دلالتها وبهذا تنتفي صفة الانفصال.
أوليست هذه لعبة سياسية ذكية، حتى لو كان قد جربها بصورة أكثر وضوحًا مع مليشيا مشابهة في الشمال؛ لكنه يتجاهل المقارنة، بل ويرفضها. وتلك هي الحنكة؛ ليكون هو الكاسب الأكبر وقد حيّد خصومه جميعهم. هو لم يتعلم الدرس ولن يتعلم، فحين يكون الهوى مليشاوى، لا تعمى القلوب وحدها، بل العقول والأبصار، ويكون التبرير ممكن والورطة قابلة للتكرار.