مقالات

حكاية الرَّجل الميِّت (الفصل السادس)

10/09/2024, 16:25:45

في صباح اليوم التالي، استيقظت قرية العكابر على خبر موت الطفل فُرَيْس، فكان أن شاع الرّعب وضج الناس، وامتلأت صدورهم بالغضب.

ومن شدة غضبهم، تجمعوا في ساحة القرية، وراحوا يهددون بالانتقام للطفل فُرَيْس. ووحدها أم فُرَيس لم تتهم الميِّت، ولم تقل إنه السبب في موت ابنها، وإنما ألقت باللوم على الأطفال الثلاثة الذين راهنوه، ثم وقد فاز بالرهان سخروا منه، وضحكوا، وكذبوا عليه، ورفضوا أن يفوا بوعدهم، ويشتروا له حلوى الطحينية.

وقالت يومها لنساء القرية، وهي تبكيه:
"فُرَيْس مات من القهر يا نسوان.. مات مقهور".
 
وكان أكثر ما يبكيها هو أنه مات وهو يشتهي حلوى الطحينية:
"مات وهو خاور طاحونية".

وفيما برّأت قُرُنْفُلة الرَّجل الميِّت، شهد الأطفال ضده، وقالوا إن الميِّت هو من تسبب في موته، لكنهم قالوا ذلك بطريقة مُرعبة أرعبت السامعين:
"الميِّت شفط دم فُرَيْس شفط".

وحين سألوهم عمَّا جعلهم يعتقدون بأن الميِّت شفط دمه؟ قالوا إن فُرَيْس بعد عودته إليهم كان وجهه شاحبا وناشفا، وفيه اصفرار، ولم يكن فيه دَم.
 
وبعد أن أدلى الأطفال بشهادتهم تعاظم الخوف من الرَّجل الميِّت، وخُيِّل للأمهات أن الميِّت سوف يشفط دَم أطفالهن مثلما شفط دَم الطفل فُرَيْس.

وكان ما جعلهن يتوجَّسنَ خوفاً هو أن أطفالهن كانوا عند مرورهم بجوار بيت الميِّت تشحب وجوههم، وتبدو شاحبةً، مُصفرّةً بلون الوَرْس.

ولشدة خوفهن على أطفالهن رحن يُولوِلنَ في سطوح بيوتهن، ويتهمن غصونا بأنها السبب في عودة الرَّجل الميِّت إلى القرية، ويطلبن من المجتمعين في الساحة أن يفعلوا شيئا، ويقترحوا حلا.

وكان الحل في رأي بعضهم هو أن يفصلوا بين غصون وبين الرَّجل الميِّت، لكن الغالبية كان لهم رأي آخر؛ وهو أم يغيِّروا طريقهم، ويتوقفوا عن المرور من أمام بيت الرَّجل الميِّت.

وبعد أن اتفقوا على تغيير طريقهم، صعد صالح الدُّقْم إلى رأس قُبة الولي شُعلان، وقال  بصوته القوي كصوت المدفع:
"الحاضر يعلم الغايب، من بُكرة ممنوع الجَزُْعة من قُدام بيت الميِّت".
 
 ومن يومها، غيَّروا طريقهم، وأصبحوا يمرون في ذهابهم وإيابهم إلى بيوتهم من خلف القرية، ومن طريق شبه دائري بدلا من الطريق القديم والمختصر، وكانت النساء والصبايا أكثر تضررا؛ ذلك أن المسافة إلى النَّبع وإلى أي مكان في القرية تضاعفت، وبدلا من أن تذهب البنت إلى النَّبع، وتعود في نصف ساعة، صارت المسافة من الطريق الدائري تستغرق ساعة واكثر من ساعة.

وفي خلال أسابيع، كان الدرب الذي يمر من أمام بيت الرَّجل الميِّت قد مات هو الآخر، وانمحت معالمه، ولم يعد أحدٌ يمرُّ فيه سوى البهائم.
لكن ذلك لا يعني أن مخاوفهم من الرَّجل الميِّت انتهت، أو خفّت، وإنما العكس هو الذي حدث. ازداد خوفهم منه، وتعاظم، وكانو وهم يسيرون في دروب القرية يستشعرونهُ، ويشعرون بحضوره، ويحسون بوجوده قريباً منهم، لكأنه يترصّدهم، ويسير خلفهم، ويلاحقهم.

وذات يوم، عاد الأطفال من ساحة القرية وهم في حالة رُعب، وقالوا لأمهاتهم إنهم أبصروا الميِّت يسير خلفهم، وأما الأطفال الذين راهنوا فُرَيْس وكذبوا عليه فكانوا كل ليلة يفزعون مرعوبين من نومهم.
وحين تسألهم أمهاتهم عما أفزعهم وأيقظهم من نومهم يقولون لهن إنهم أبصروا الميِّت يجري بعدهم، ويطاردهم:
"شفنا الميِّت يجري بعدنا".

وكان الميت يظهر يوميا للأطفال، وقت المغرب، أثناء عودتهم إلى بيوتهم، ويظهر في منتصف الليل على الأطفال الثلاثة الذين راهنوا فُرَيْس على حلوى الطحينية، وكذبوا عليه.

ولشدة خوفهن على أطفالهن، ذهبت نساء القرية إلى بيت وكيل الشريعة حَمُود السُّلتُوم،  وطلبن منه أن يذهب إلى الحكومة، ويحمل شكواهن للحاكم، لكن وكيل الشريعة كان يذهب لقضاء أعمال خاصة به، ويوهمهن بأنه يذهب ليحمل شكواهن إلى الحكومة.

وكانت النساء يدفعن له مقابل ذهابه وإيابه، وأجور أتعابه، لكن وكيل الشريعة راح يستثمر خوفهن على أطفالهن من الرجل الميِّت، وكان كل يوم بعد عودته من الحكومة يخبرهن عن الخسائر التي خسرها، وعن الرشوات التي دفعها للحاكم مقابل أن يوافق على إرسال عساكر للقبض على الميِّت.

وذات يوم، وقد عاد من بيت الحكومة، قال لهن:
"عساكر الحكومة حتى لو خرجوا ما يقدروا يقبضوا على الميِّت، والوحيد الذي يقدر يقبض عليه، ويرجعه إلى المقبرة هو مولانا الإمام".

وراح يخبرهن عن كرامات الإمام، وكيف أنه يقبض على الجن والعفاريت والمِرَدة، ويحبسهم ويكبلهم بالقيود والأغلال.

وبمجرد أن أخبرهن بأن الإمام هو الوحيد القادر على القبض على الميِّت حتى أضاءت وجوههن من الفرح، ورحن يسألنه عن السبب في أن الإمام لم يقبض عليه، رغم مرور شهر؟
قال لهن وكيل الشريعة: "الإمام مش هو داري".
 
ورحن يسألنه عمن سوف يخبر الإمام بخبر الرجل الميِّت؟

فقال لهن: "الإمام بصنعاء، وعلى شان يعرف لا بد نرسل له برقية، وننقل له شكوى أهل القرية من الميِّت سُلطان المِلح".
 
ولأن نساء القرية لا يعرفن ما البرقية، قلن يسألنه:
"مو هي البرقية يا حمود؟".

قال لهن: "إنها رسالة تُرسل وتصل للإمام بسرعة البرق".

ومن جديد، أضاءت وجوههن من الفرح، وقلن له:
"ولمو ما ترسلش للإمام برقية يا حمود؟".

قال لهن حمود: "من أين لي -يا نسوان- قيمة البرقيَّة؟!".

وقالت له أمهات الأطفال الثلاثة:
"قدِّم من عندك، ونحنا شنندي لك".

قال لهن: "البرقية غالي -يا نسوان- ولو الواحد يشتي يرسل برقية للإمام يشتي خمسين ريالا، وانا من أين لي؟!".
 
وفزعت النساء من غلاء سعر البرقية، وقلن إن سعرها أكثر من سعر بقرة أو ثور، وإنه لم يعد لديهن ما يدفعنه.
 
وحين أبصر وكيل الشريعة فزعهن وترددهن، قال لهن وعيونه على حليهن الفضية والذهبية:
"أولادكن أغلى من الفضة ومن الذهب؟".

وبعد أن قال لهن ذلك، التفت ناحية سِفَرجَلة التفاتة ذات معنى، وبعد التفاتته تلك، راحت سِفَرْجَلة تخوِّفهن، وتقول لهن إن بقاء الميِّت في القرية سوف يتسبب بمرض  وجنون أولادهن..

ولشدة خوفهن على أولادهن من أن يمرضوا أو يجنّوا، افترقن المبلغ، وأعطينه لوكيل الشريعة.
 
وبعد أن أصبح المبلغ كاملا في جيبه، ذهب إلى الحكومة لشأن من شؤونه، وعند عودته راح يبشِّر نساء القرية، ويقول لهن:
"أرسلت البرقية للإمام بنفسي".

ويومها فرحت النساء فرحاً عظيماً، وشعرن بقرب نهاية الرجل الميِّت، وقالت لهن سِفَرْجَلة إن سُلطان المِلح مكتوب عليه أن يموت مرتين:
"مرة بقضاء الله وقدره، وأخرى بقضاء وقدر الإمام".

مقالات

الوجْه الآخر للمملَكة

التحوّل والبناء، الذي يجري في السعودية، مُثير للاهتمام، لكن بقدر إثارته للاهتمام يقدم صورًا شديدةَ التناقض في جوانب أخرى.

مقالات

الاستعراض اللغوي والمعرفي

الكثير من الكتابات تشدنا إليها وتدعونا إلى الغَوص في أعماقها، وأساليبها المتباينة والمتنوّعة، وقليل من الكُتاب الذين يستطيعون الإمساك بزمام الأمور، وشَد انتباه القارئ من أول لحظة بالفطرة والثقافة الموسوعيّة، والإبهار المعرفي عن طريق الإبهار اللغوي، واللغة المكثّفة المُوحِية، وتنوُّع أساليب العَرض، ومناقشة قضايا جوهرية تتّصل بالوجود الإنساني، وإشكالياته المُعاصرة.

مقالات

أبو الرُّوتي

مثلما كان البَوْل يسيل منّي لا إرادياً، كان المُخَاط هو الآخر يسيل من أنفي لا إراديا مع الفارق، وهو أن البَوْل يسيل في الليل أثناء النوم، فيما المُخَاط يسيلُ في النهار وأنا يقظ؛ لكنه كان يسيل بطريقةٍ مَرَضيَّةٍ لكأنّ أنفي جُرح ينزف، وكان الذين يَعبُرون من أمام بيتنا -حين يبصرون السائل الفيروزي يجري في سائلة أنفي- يصرخون بي: "اتْمخَّط ياب".

مقالات

فلسطين جرح الإنسانية النازف

لا يمكن في الأصل أن نفّوت عند الحديث عن القضية الفلسطينية حادثة وفاة السنوار الأخيرة التي توجت بعد مسيرة صمود ونضال طويلة أسطورية بالشهادة. وذلك لشيئين واحدٌ منهما حزن الناس العام في الوطن العربي، الذين بكوا عجزهم، وصمت زعمائهم الخاذل للشعب الفلسطيني وقادته الذين تركوا في الأرض الفسيحة مهوى لنيران العدو مواجهين مصيرًا هو أقذر ما يمكن للبشرية أن تصل إليه من الممارسة العدوانية القائمة على سفك الدماء وتدمير المنازل وقتل كل مظاهر الحياة، كل الحياة، شجرها وحجرها وناسها.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.