مقالات

حلم الحاج عبدالله

29/11/2020, 17:54:18

يترحَّم الحاج عبدالله مبارك على أيام الانكليز.

- بس كان الانكليز مُحتلّين بلادنا يا حاج عبدالله ...

- نعم يا ولدي، بس كان عندهم قليل رحمة وعدل. أصحابنا اليوم ما يعرفوش الله ولا رسوله.

ويحكي الحاج عبدالله قصة حياته بصورة موجزة، مستعيداً شريط ذكريات ثقيلاً كشريط السكة الحديدية: جئت من قريتي في أعلى جبل من جبال الرحمن، وعمري 11 سنة. علّمتني عدن كيف أقرأ وأكتب، وكيف آكل وألبس، وكيف أعمل وأكافح، وحتى كيف أتخاطب مع الناس...

وينفث ابن مبارك زفرة حارّة في الهواء الرطْب، وكأنّه يطرد مخزوناً ضخماً من الأسى على الزمان الذي مضى، حيث كان هناك شيء من الجمال، فيما هنا اليوم أشياء من القبح. 

ويواصل ابن مبارك: كان العنجريز فوق رؤوسنا وتحت جلودنا، لكن ما كنّاش نخافهم، بالعكس كنا نقارعهم ونقاتلهم..

- أشوفك تحنّ لهم كثيرا، يا عاقل!

- صدّقني مش حنين، بش اللي شفناه من بعد الاستقلال لليوم هذا، خلاّنا نشوفهم طيور الجنة! .. لما يقهرك الأجنبي يا ولدي حاجة، ولما يقهرك أخوك حاجة ثانية!

كانت الرسالة التي تحملها كلمات الحاج عبدالله واضحة العبارة، وشفافة النبرة. فقد ظلّ الناس يحلمون بزمن أفضل بكثير من زمن العنجريز، وبحياة أفضل من حياتهم إبان الاحتلال، ولكنهم ظلوا يصطدمون بصخور جدّ صلدة، أحالت آمالهم إلى جحيم، وأحلامهم إلى كوابيس.

"بكره با يكون أجمل" .. هكذا ظلوا يأملون منذ يوم الاستقلال حتى يوم إعلان الوحدة، وإلى هذه اللحظة.. هذي اللحظة بالذات.. لكن "بكره" هذا لم يكن يأتي أبداً.. " بكره" هذا كان "جودو"، الذي طال انتظاره من دون طائل البتة، فلا يأتي ولو في الخيال العابر مع موجات النسيم المسافر.

قالوا للحاج عبدالله - عندما سأل عن "بكره" الموغل في الغياب - إن ثمة "ظروفاً ذاتية وموضوعية" حالت دون قدوم هذا "البكره"، على نحوٍ عاجل، غير أن ذلك لا يعني أنه لن يأتي أبداً.

ما يزال الحاج عبدالله يتذكر هذه العبارة، فلا يدري إن كان عليه أن يضحك أم يبكي؟

- بس يا حاج شوف الحُرية حالية، رغم كل شيء..

- الحُرية حالية يا ولدي لما تكون مع كرامة كافية، لما نكون نسكّعها مع لقمة نظيفة، لما يكون معاها أمان وضمان.. ما فيش حُرية -يا ولدي- مع جوع وجَور وخوف وذلّ ..

- شوف يا حاج عبدالله، في فيلسوف يوناني قديم اسمه "أفلاطون"، قال إن "المساواة في الظلم عدل"..

- هذا لما تكون هناك مساواة صح، ولو في الظلم والجوع.. لكن لمّا أكون أنا فاطس من الجوع وأنت فاطس من الشبع.. هذا آمن وذاك خائف.. واحد منعوم والثاني مظلوم .. هذي مش مساواة .. ولا هذي حُرية ..

- طيّب، أيش الحل، يا عاقل؟

- الحلول كثيرة يا صاحب "أفليطون" .. بس كلها بيد اللي خلقوا مشاكلنا هذي كلها.. كيف تشتي واحد كان سبب المشكلة، يجيب لك الحل بارد مُبرّد؟

- افتهم لي قصدك، يا عاقل .. وهذا الكلام كمان قاله قبلك واحد صاحبي ثاني، اسمه "سقراط" .. ما معناه أن اللي يكون أصلاً جزءا من المشكلة مش ممكن طبعاً يصلح يكون جزءا من الحل .. هذا اللي تشتي تقوله، يا عاقل؟

لم يجبني الحاج عبدالله مبارك .. لكنني لم أكن أنتظر إجابته .. مثلما لم يعد هو ينتظر أن يتحقق حلمه، بعد أن بلغ به اليأس حداً لم يعد فيه ينتظر حلاً من أيّ نوع!

كل عيد استقلال مجيد وأنت بخير يا حاج عبدالله.

مقالات

وماذا بعد أيّها اليمن العنقاء!

لم تَعُدْ كلُّ الكتابات السياسية، والتحليلات، والتنبؤات، ونشرات الأخبار، والتقارير، وهلمَّ جرًّا، تعني شيئًا لليمن المتشظِّي، المفتَّت، والمقسَّم، والممزَّق بين ميليشيات باغية في كل زواياه، وجباله، وسواحله الممتدّة.

مقالات

"أسوأ من الموت بغارة جوية"

"الجائحة الحوثية باقية وتتمدد"، هذا ما صرَّح به الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، ضمنيا حول وقف الغارات الجوية على مواقعهم مقابل عدم استهدافهم السفن في البحر الأحمر.

مقالات

عندما ترتجف المليشيا من فنان!

لا شيء يُرعب الطغاة كصوت الفن، ولا شيء يُعري القبح السلطوي كجمال النغمة الصادقة. الفن ليس ترفًا، ولا مجرد وسيلة للتسلية في حياة الشعوب. الفن، بمعناه الحقيقي، وعيٌ جمالي عميق، وحسٌّ تاريخي يتجلّى في أوضح صوره حين تُعزف الحقيقة في وجه الكذب. ينبثق كثورةٍ معنوية عندما تُغنّى الحرية في مسرح السلاسل. الفن، بمجمله، هو حين يُرتّل الوطن في زمن الملكية السلالية!

مقالات

أبو الروتي (33)

كانت غرفتي في سقف الفُرن تضم مكتبتي الصغيرة، وكان أجمل ما فيها راديو كروي الشكل لم أعد أذكر كيف حصلت عليه

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.