مقالات

حينما تتداخل العنصرية بالفوضى في شارع نحبّه!!

30/04/2021, 12:55:17

علاقتي بشارع "هائل"، في مدينة صنعاء، تمتد لأكثر من خمسة وثلاثين عاماً، وتحديداً منذ جِئت المدينة طالباً في السنة النهائية في المرحلة الثانوية العام 1985م، وسكنت عند قريب لي (ابن خالتي) في مسكن يقع بين "الدائري" و"هائل"، وكان الأخير  نقطة حيويّة من نقاط تحرّكاتي وتجوالاتي.

وحينما صرت طالباً جامعياً كانت مقاهي الشارع، ومقايل الأصدقاء والأقارب، ولاحقاً مقر منظمة الحزب في المنطقة الغربية هي الأماكن القريبة من القلب.
في العام 1993م، سكنت فيه، حين بدأت بتكوين أسرتي الصغيرة في الشارع المتفرّع إلى "القبة الخضراء".

وحينما غادرت المسكن إلى آخر في حي قريب (حي عَصر الأسفل) لم تنقطع علاقتي بالشارع، إذ صار لاتحاد الأُدباء مقرٌ دائمٌ في أطرافه الشمالية (حيِّ الرقاص)، وكان حضوري للاتحاد ضرورياً بحكُم عملي فيه، تماماً كعملي في صحيفة "التجمع"، التي صارت هي الأخرى، بعد سنوات، مع منتدى "الجاوي" ومكتب الأمانة العامة لحزب "التجمع الوحدوي اليمني"، تمارس أعمالها من شقة في بُرج تجاري في بداية الشارع من جهة شارع "الزبيري".

في شارع "هائل" أصدقائي الذين أشاركهم، من سنوات طويلة، في معظم عصاري الأيام، وقليلاً من الليل لعب الورق (البطة) في مقاهيه؛ في الشارع أيضاً يسكن الكثير من أصدقائي الحميمين، وهو في مناسبات كثيرة وِجهة من وجهات التسوّق المرغوب للعائلة.

علاقة وجدانية طويلة ومتشعّبة تربطني بهذا الشارع، الذي يمثل خلاصة تعايش اليمنيين، حتي إنّي  شبّهته -ذات مرّة- بالمعدة الهاضمة، التي تصهر تباينات اليمنيين الساكنين فيه، ولهذه المِيزة صار الشارع بأحيائه وحواريه المتعددة واحداً من الأماكن المرغوبة  في السكن عند أكثرية الكادر الوظيفي، الذي انتقل من عدن ومدن جنوب اليمن إلى صنعاء بعد الوحدة، بحُكم انتقال وظائفهم إلى العاصمة.

تشكَّل الشارع تجارياً منذ بداية نشوئه، فكان -ولم يزل- واجهة مثلى للتسوّق الشعبي، بسبب وجود مئات المحلات التجارية التي تعرض الملابس والكماليات وأدوات الزينة والأدوات المنزلية بأسعار يراها الكثيرون تنافسية، قياساً بأسعار ذات البضائع في المولات الكبيرة، ومحلات الشوارع التجارية الحديثة، في "حدة" و"الأصبحي" و"بيت بوس"، وتتفرّع منه أسواق هامشية لبيع الخضار والفواكه والقات.

كل ذلك جعل من ازدحام الشارع معضلة حقيقية، وضاعف من هذه المشكلة احتلال عربات وبسطات ومفارش الباعة - للملابس والأحذية والأقمشة وغيرها- للأرصفة وجنبات الشارع. أيضا، وقوف سيارات ومركبات المتسوّقين وأصحاب المحلات التجارية الخاطئ وغير الخاطئ، في شارع يعجّ بالمتسوّقين وأصحاب الدراجات النارية وسائقي الباصات.
أعمال الرصف الحجري والتبليط، التي تتم فيه بشكل متقطّع منذ أشهر طويلة، لعبت دوراً سلبياً مضاعفاَ في عملية الاختناقات المرورية.

منذ قرابة عام ونصف، عُدت للسكن في حي قريب من أطراف الشارع الشمالية الغربية، فصار مروري في الشارع المزدحم ضرورياً، وخصوصاً حينما أعود من مشاوير بعيدة، وأحمل أغراضاً للبيت، أو أكون برفقة الأسرة.

(2)

في أكثر من مناسبة، وأنا عائد من واحدٍ من مشاويري البعيدة أجد نفسي مثل ركّاب "الميكروباص"، الذين معي، وركّاب السيارات والمركبات التي تسبقنا، أو تلك التي خلفنا، واقعين في مصيدة الزحام الشديد التي أوقفت الحركة تماماً، وليس هناك منافذ بديلة يمكن الخروج منها باتجاه الحواري والأحياء القريبة.

الأمر ليس توقفاً لدقائق معدودات، وإنما يجاوزها أحيانا إلى ثُلث ساعة، أو رُبْعها قبل أن تعاود السيارات حركتها وببطء شديد.
في المرة الأولى، سبب لي هذا التوقف نوعاً من الكرْب والضيق الشديد، فقلت أغادر الباص، وأقطع المسافة الباقية راجلاً، بدلاً عن قضاء الوقت، وبأعصاب منفلتة في "الميكروباص" المزدحم، وبررت لنفسي أيضاً لتكون هذه المغادرة مناسبة لإشباع فضولي بمعرفة سبب التوقّف الطويل للحركة؟

على بُعد خمسين متراً، رأيت سيارة نقل قمامة عتيقة تقف في الممر الضيّق للشارع الذي تحتل جوانبه وأرصفته عربيات البائعين، والسيارات المتوقّفة على الجانبين، وإن العُمال الذين عليها يتلاسنون مع سائقي السيارات المُعطلة عن المرور.
مُلاسنة تصل مفرداتها إلى حالة من الطفح العنصري البغيض، التي تُطلق على العُمال ذوي البشرة السوداء، والذين تتركبهم ساعتئذ  حالة عناد عجيبة، وكأنّها وسيلتهم الوحيدة والجبّارة في الانتقام من هذه الأصوات التي تحتقرهم وتحط من شأنهم كبشر، بأن يوقفوا الحركة كُلية في الشارع الحيوي، تحت مبرر جمع القمامة والمخلّفات القذرة في ذروة الظهيرة.

طبعاً ليس هناك من سيزجرهم عن تسببهم في افتعال هذا الاختناق الحاد في حركة السيارات والمركبات، لأن هناك من سيقول وبكل بساطة إنهم يؤدون عملهم الطيّب الذي يتأفف منه الجميع، وإن المشكلة في أصلها ليست مشكلتهم، والتي تتلخص بدرجة رئيسية باحتلال العربيات والبسطات  والسيارات الواقفة الأجزاء الحيوية من الشارع، وكذا السير المعاكس لسائقي الدراجات النارية في المساحات الضيّقة، دون أن يحاسبهم أحد.

يتعمَّد عمّال النظافة الإبطاء في نقل المخلّفات من الشارع (كيفما اتفق)، وهي بالمناسبة ليست مخلّفات المحلات وعربات وبسطات الجائلين، وإنما أيضاً مخلّفات العمارات السكنية الواقعة على الشارع المجاورات لها، التي لا يجد أصحابها من مكبّات مخصصة لرمي القمامة إلاَّ في وسط الشارع.
فعل عمّال البلدية في تعطيل الحركة لا يُفسَّر إلاَّ بكونه ردة فعل انتقامية من الجميع بمن فيهم  المتعطلين من هذا التوقّف ومن المتسوّقين في الشارع نفسه، والأهم من الألفاظ العنصرية الجارحة التي تلفظ بها بعض السائقين وركّاب السيارات الواقفة خلف سيارة القمامة، التي يحسونها أيضاً في نظرات الكثيرين.

(3)

المعاينة القريبة لهذه الحالة تفصح وبشكل جلي وغير موارب عن أزمة قِيمية متجذّرة في المجتمع، قبل أن تكون نتاجا لحالة فوضى عابرة يمكن تجاوزها في حال تغيّرت الظروف، فلم تزل التمايزات على أساس اللون والمنطقة واللهجة تعمل بكفاءة أكبر في المجتمع، وضاعفتها أيضاً الحالة المستديمة للحرب، التي تعيد إنتاج تمايز كلي بتقسيم المجتمع بين أقلّية صغيرة للسادة، وكثرة لا تحصى للعبيد.

استمرار الفوضى في هذا الشارع (ومئات الشوارع في المُدن الرئيسة والثانوية)، التي صارت مُباحة لأصحاب العربات والبسطات والسيارات والدرّاجات المخالفة، ليس سببه عدم قدرة القائمين التنفيذيين في البلديّات على تنظيم الشارع، وإيجاد أسواق بديلة في أزقته غير الحيوية، وليس حباً في مُلاك العربيات والمحلات، حين يسوقون أن من حقهم العيش من أعمالهم هذه؛ الأمر بكل بساطة أن الجبايات التي تُؤخذ من هؤلاء وحدها من تُسيِّل لعاب المسؤولين والنافذين. فكل عربية، أو صاحب بسطة يدفع يومياً ما متوسطه ثلاثمائة ريال (نصف دولار) لعاقل السوق  وتابعيه، ولو افترضنا أن في شارع "هائل" وحده والشوارع المتفرّعة منه باتجاه الحواري الخلفية   ألف عربية ومفرش وبائع يفترش الأرض، فإن إجمالي المحصَّل اليومي هو ثلاثمائة ألف ريال (500 دولار)، وتسعة ملايين في الشهر الواحد (15000دولار) ومائة وثمانين مليون ريال في العام (300000 دولار). هذه المبالغ لا تُحصَّل للخزينة العامة، وإن ورِّدت فلا تتجاوز الإيرادات ما نسبته 10%، والبقية تذهب إلى جيوب النافذين.

وهذا أنموذج شارع واحد في المدينة مترامية الأطراف، وتناظره عشرات الشوارع في شارع "جمال عبد الناصر"، و"باب اليمن"، و"علي عبده المغني"،  و"شارع القصر"، وأسواق "شُعوب"، و"شميلة"، وأسواق الجُملة (علي محسن) وغيرها، و غيرها، في صنعاء.

مقالات

أبو الروتي ( 14 )

كان المعهد العلمي الإسلامي يتبع الشيخ محمد سالم البيحاني -خطيب وإمام مسجد العسقلاني في كريتر- وكان مدير المعهد هو الأردني ناظم البيطار، الرجل الذي كان مجرد ظهوره يثير فينا الرعب.

مقالات

ما العمل؟

عندما قرأ مقالي «ماذا ننتظر كيمنيين؟»، عَقَّبَ الأستاذ المفكر الإسلامي زيد بن علي الوزير بسؤال: «ما الحل؟»، و«ما المخرج؟»؛ وهو «سؤال العارف». وقد وردَ في الأثر: "ما المسئول بِأعلمَ مِنْ السائل".

مقالات

"أيوب طارش".. اسم من ذهب

ما أكثر ما تعرَّض أيوب طارش لعداوات ساذجة من بعض المحسوبين -بهتانا- على رجال الدين، وخطباء المنابر المنفلتة، ليس آخرهم عبد الله العديني، الذي أفسد دينه ودنياه وآخرته بإثارة قضايا هامشية لا تهم أحدا سواه

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.