مقالات
خاطرة فلسفية عن الأمل..
أما وقد صار التفاؤل دليلاً عن الغباء، وأصبح النظر إلى الحياة كأنها صارت ظلاماً بالكامل، فلا بُد من صيحة كُبرى؛ توقف هذا الجنوح نحو المزاج المحبط. وإن كان الأمر يحتاج إلى مُعجزة. لكن حتى وإن لم تنجح المهمّة في تطهير الناس من يأسهم، فليكن محاولة للحدّ منه، لجاماً يُخفف هرولة الأجيال نحو عقيدة التشاؤم؛ كأنه فضيلة اللحظة.
قناعتي بأن الإنسان نسيّ نفسه أو كاد، صار الواقع المحطّم حجة المرء للشكوى ومبرره للإيمان بسُوء الحياة بكاملها. حين تسأل الناس عن أحوالهم..؟ مباشرة يسردون لك الواقع السياسي. حسنًا. نتفق معكم عن هذا. لكن ماذا عن الإنسان بقواه الأصلية، أين هو؟ هل جربتم استعادة كامل قدرتكم على الفعل، قبل الشكوى من سُوء الواقع..؟
أتحدّث من قاعدة فلسفية عن الإنسان الأول، بعيدا عن كل ما تقوله وقائع الحياة في الخارج.
الحياة فاسدة، وأنتم من تُفسدونها أكثر. كلّ فرد يساهم ببلادة في تدمير دوافع الحياة الحقيقية؛ سواء تنبّه لذلك أم لا.
كل يوم تقرأ سيلا من الأنين والتأففات من أبسط الأمور حتى أكثرها أهميّة، كل شيء في حياتكم صار مصدراً للضيق وسبباً لبث الكربات، وإعلان عدم جدارة الحياة بأن تُعاش. هذا لم يعد نتاج السوء الخارجي فحسب، بل برهاناً على علل في الداخل أيضاً، عن مخلوق فقد قدرته على مواجهة الحياة بشجاعة، واكتفى بالثرثرة حول ما يجري.
"الحياة عبء، الحياة ثقيلة، الحياة ملعونة". حسناً، لماذا أنتم متمسكون بها؟ لماذا تعيشون حياة ملعونة؟ هل هناك من يصوِّب البندقية فوق رؤوسكم، ويُجبركم أن تواصلوا اللعبة؟
أنتم مصدر الثقالة، ليست الحياة هي العبء، أنتم ثقيلون بطبعكم. ليس الأمر شكوى من سُوء الحال، بل برهان على عدم جدارتكم بالحياة؛ سواء كانت جنة أو حجيماً، أنتم غير مؤهلين للبقاء، أرواحكم محجوبة، ونفوسكم محطَّمة، تجرون أجسادكم كأنَّكم تحملون جثثاً فوق أكتافكم. أنتم الجثة وأنتم من صوّب الرصاصة، أنتم الجُناه الأصليون، قبل أي حديث عن سُوء الواقع أو جودته.
حتى لو حدثت معجزة، واستيقظتم في مدن وقرى فردوسية، ستجدون مبررات جديدة للتأفف، ستواصلون تخريب الحياة؛ لأنكم غير مؤهلين لها، أنتم بحاجة للذهاب نحو مراكز تأهيل أساسي تتعلمون فيها من الصفر، كيف يجب أن تعيشوا، حتى اللغة مطالبون بنسيانها، وإعادة تعلّم كل شيء من النقطة الأولى.
"الواقع ثقيل، عناصر الحياة غير متوفرة، البلاد في حرب، الرواتب غير موجودة"، هذا ليس حديثي، أنا لا أتكلم عن هذه المنطقة، بل عن خلل آخر، عن مخلوقات أفسدت الواقع، أو واقع أفسد المخلوقات.
حسناً، الكهرباء منطفئة، لكن أخبرني: هل تجيد استخدام حواسك في الضوء. ثم لماذا لا تحبون الظلام أيضاً..؟ هل أنت تستنشق هواء جيداً، هل تتقن المشي بعافية كاملة، هل تصحو لتترقّب الشمش كطفل بروح جذلى؟ هل تمضغ طعامك بعناية وتُلامس الأشياء بانتباه تام؟ أنت لا تجيد التعامل مع ما هو موجود، فلماذا تشكو مما ليس موجودا؟
حواسكم معطوبة، لا تعرفون كيف تشعرون، كيف تتحدثون مع بعضكم ببطولة وشرف، كيف تصغون بانتباه، كيف تؤدون طقوس حياتكم من أبسط فعل لأعظم عمل. هناك خلل ما أصاب كيانكم وكينونتكم، ومهما تبدل واقعكم لن تتغير أوضاعكم كثيرا. غادروا من هنا، وأعيدوا تهيئة أنفسكم للحياة الحقيقية، ولسوف تتمكنون من صناعتها كما يليق بكم.
الحياة، التي تعيشونها، هي استحقاقكم، استحقاق ملائم لما أنتم عليه من جاهزية. الواقع الجديد لن يتبرُع بتأهيلكم، ولن يتخلّق واقع قدسي من أيادي تُمسك أكواب الماء وهي ترتعش، تتحدث وهي خائفة، عيون فزعة وقلوب لا تعرف كيف تنبض، لا تشعر بالدّم في أوردتها، لا تخجلون من حالة كهذه، لكنكم تملأون الدنيا ضجيجاً، لأنكم لم تجدوا نقوداً كافية؛ كي تشترون لحمة في الغد، أو حتى كيلو دقيق. لن أذرف دمعاً من أجل هذا، ذلك أنكم لن تموتوا جوعاً في الغد، لكنكم ستواصلون الشكوى كجثث، ولا تعرفون كيف تعتنون أولًا بالطريقة المثلى للعيش. لقد نسيتم كيف تستعيدون شغفكم الأساسي بالحياة، كيف تبتكرون آمالا دافعة للعيش.
لا، بل لا يحتاج الأمل لابتكار؛ بل هو شرعة ومنهاج، ما دمت حياً، وتحب الحياة، ومتمسّك بها، فلن تستطيع كل تجاربك الخائبة، كل قيود الخارج وأبوابه المغلقة، أن تجردك من حسّك الأصلي بالأمل، وتكرار المحاولة كأنّك رب الوجود ولست شحاذاً يتسوّل حقه في الحياة من أحد، وإن لم ينجح؛ يعود منكسراً وشاعراً بالخيبة. إنها خيبتك من نفسك فحسب.
كلمة أخيرة:
حتى حين أرى الشوارع مليئة بالدم والأجساد الممزقة، حين يتحطم كل شيء وينتشر السواد في كل مكان، في اللحظة التي يكون اليأس الكامل هو الجواب الوحيد والعاطفة الطبيعية والمبررة، أرى هناك إمكانية دائمة لمواصلة العمل، وأجد أملاً مشروعاً يتجاور مع كل لحظة محبِطة.
ليس الأمل عندي شعورا مرتبطا بشروط معينة، ليس دافعاً نابعاً من الواقع، ولا عاطفة متأثرة بما يحدث في الخارج، بل قاعدة أولية متجاوزة لكل ظرف، ولا تستمد حيويتها من أي مصدر سواها.
يتولد الأمل لديَّ من فكرة الحياة المجرّدة، الحياة كتجربة حرة وواسعة ومليئة باحتمالات لا تنتهي.
ليس الأمل عاطفة بلهاء تفتقد للوعي بقسوة الواقع، لكنها قاعدة تعي وجود مساحات مفتوحة خارج القصة الحالية، هناك دائماً مسالك ممكنة، وإنّ حياتك في أقصى لحظات انسدادها هي ليست كل الحياة المتاحة في هذا الوجود.