مقالات

دردشة: حين تغدو القراءة سبباً للبلادة..

17/06/2023, 07:05:58

يُقال إن أي إنسان يقرأ فهو لا شك يخرج بربح مهما كان طبيعة ما يقرأه، ومهما كانت طريقته في القراءة. لكن هذه الفكرة المبدئية، حتى لو صحّت؛ يظل هناك سؤال أساسي: هل القراءة دائما رافعة للوعي وقادحة للذهن. هل كل من يقرأ يستفيد دائما، ألا يوجد احتمالية أن تكون القراءة سبباً للبلادة، وتعتيم الوعي أحيانا..؟

القراءة عملية معقدة ومتداخلة، وتتحكم بنتائجها عوامل كثيرة، نوعية ما يقرأه المرء، طبيعته النفسية، تكوينه الذهني، حالته المزاجية لحظة القراءة، طريقته في الاتصال بالمقروء. تكاد تكون كل عناصر الشخصية، وكل العوامل البيئية، كل شيء متصل بالإنسان نفسيا وبيلوجيا، داخليا وخارجيا، هي شروط فاعلة ومؤثرة سلبا وايجابا في محصول المرء من القراءة. لسنا بحاجة لشرح كل تلك المؤثرات، كي نقول كلمة سريعة ومباشرة عن القراءة، أو نجيب عن فرضية أن تكون القراءة سببا للبلادة أحيانا.

منذ سنوات، كلما صادفت مجموعة شباب أجد الجميع يتحدث عن الكتب والقراءة؛ هكذا في أي نقاش سرعان ما تسمع هذا وذاك، الكل يشير لاسم رواية أو كتاب. قرأت هذا، قرأت للعظيم فلان والفيلسوف الكبير ذاك. أقول في نفسي هذا -مبدئيا- جيّد. لكنني محتار، حيث لا أجد أثرا حقيقيا أو فارقا واضحا في الوعي، لدى من يتحدثون عن القراءة. ذلك أنك في الغالب، عندما تنتهي من النقاش مع هؤلاء الشباب، حول الكتب والأسماء، وتدخل في القضايا بشكل مباشر، لا تكاد تستشعر أثر هذه الكتب في حديثهم، ورؤيتهم الكلية للحياة. وهنا يبرز السؤال: ماذا يقرأ هؤلاء..؟  أو كيف يقرأون..؟

لكأن القراءة صارت هدفا بذاته، أشبه بمحاولة لتلبّس قيمة وهمية، طقسا شكليا للتزين أو محاولة إيهام الذات بقيمة غير موجودة. يمكن أن تغدو القراءة نشاط مضلل، يلوذ به الإنسان؛ لتغطية عجزه عن فهم الوجود بشكل مباشر. هنا تكون القراءة حجابا على الوعي. إنها عملية لاواعية، يدخل فيها المرء، وهو في حالة من العمى، ويخرج وقد زاد عتمة أو تشوّه وعيه، وذلك أثر أشد فداحة من الجهل.

لا بُد أن كل إنسان قد صادف في حياته بشرا لم يدخلوا مدرسة، أو أنهم درسوا ثم انقطعوا عن المدرسة، وذهبوا إلى العمل، وربما أكملوا الثانوية، وتوقفوا عن مواصلة التعليم، وتابعوا حياتهم في دروب أخرى. هذا النوع من البشر هم الفيئة الأوسع حجماً. ومهما تنوّعت دروبهم، إلا أن هناك صفة تسري على الأغلبية منهم. إنهم لا يقرأون، ولا علاقة لهم -دائمة أو حتى متقطعة- بالكتب. لكنك حين تقارنهم بأشخاص آخرين تجد الكثير منهم ذوي وعي رهيب بالحياة، تكوينهم النفسي والذهني يتمتع بقوة ووضوح، اتساق منطقي والتزام أخلاقي، حيوية عالية في شخوصهم، ويمارسون فاعلية واسعة في حياتهم. هنا تتساءل: ما الذي يتبقى للقراءة من فارق وامتياز، إذا ما كنت تلاحظ وبقوة شخصاً لا علاقة له بالكتب مطلقاً، لكنه أكثر وعياً من ذلك الذي لا يكف عن اصطحاب كتاب معه، ومداومة التلفظ بأسماء كتب وأعلام ومؤلفين من كل مكان..؟ ألا يحتمل أن يكون نشاط القراءة نفسه سبباً أصلياً، ولو بجزء من تلك الظلمة، في حياة الرجل، ووعيه ونمط تفكيره..؟ أوليست القراءة هنا متّهمة رئيسة في إصابة بعض البشر بالبلادة..؟

هناك وصية مفتاحية، يرددها الكثير، وصية يتوجب على كل قارئ أن يفتتح بها أي نشاط خاص بالقراءة: لماذا أنا بحاجة لأن أقرأ؟ هل هذا الكتاب مهماً لي؟ هل هو متصل بحياتي، بنمط تفكيري، بهدفي المستقبلي؟ هل عدم قراءته ستحجب عني فكرة مهمة..؟ صحيح أنه ما من كتاب إلا ويحمل فائدة ما، لكننا نتحدث عن الطريقة المثلى؛ لمكافحة البلادة المحتملة والناشئة عن القراءة العشوائية، ما يعني أن كل قارئ يحتاج لإيقاظ نفسه، وحمايتها من الغرق في وديان للقراءة بلا معالم ولا آفاق، وهو ما يستدعي مساءلة الذات. إخصاع الجميع لسؤال العنوان: لماذا تجد كثير ممن يقرأون لا يتزحزح وعيهم، وتكاد تكون حصيلتهم من القراءة ضيئلة؛ إن لم تكن منعدمة ومعكوسة..؟

يُقال: ليست القراءة سوى مجس يسهم في قدح الشرارة في كينونة المرء وذهنه، لسعة من طرف النار كافية؛ كي تحررك من خمودك وتحفّز قواك الكامنة؛ كي يغدو وعيك بوجودك أكثر انتباهاً. هذا حين تكون القراءة عملية صحية وفعَّالة، حيث القارئ يستشعر أن تفتقاً يحدث في أعماقه، ينابيع تنجلي وجمرة تزداد توقدا كلما مضى الشخص مع الفكرة وزاد إمساكاً بها. لكن في الحالة المعكوسة، في حالة القراءة العائمة والمختلة، تنغلق مفاتيح الوعي، ويغدو الوجود أمام المرء أشد انحجاباً، والروح تهبط نحو قيعان موحشة.

مرة أخرى: هناك من تسهم القراءة في إيقاظه من وجوده الميت، وهناك من تتسبب القراءة في مضاعفه موته. الفارق هو أن القارئ الحي يحشد كل قواه، كي يلتقط الجملة، يتوقف معها طويلا، يعتصرها، يمارس تأويل مفتوح لمعناها، يقرأ ويعيد قراءة الفكرة، لا يغادر الصفحة حتى يسيل المعنى داخله، ويصبح جزءاً من نسيجه. وقارئ آخر يحدِّق في الورقة، يحرك شفتيه، يمر على الصفحات وذهنه شارد، إنه في حالة من الارتخاء، ليس حاضرا كي يرتِّب المعنى القادم، ويؤثث مكانه في باطنه. في الحالة الأخيرة، يكون الكتاب أشبه بستار يفصلك عن ذاتك، يضاعف غفوتك، يستنزف قواك، ويشوّه ملكاتك الفطرية. فلا أنت احتفظت بطاقتك المبدئية قبل أن تقرأ، ولا الكتاب أسهم في منحك طاقة حياة مضاعفة، لا أضاء جزءاً من العتمة فيك، ولا تركك في عمشك الأولي؛ بل ربما جعلك أشد ظلاماً مما كنت عليه قبل القراءة. نجح في تبليدك ولو توهمت عكس ذلك.

الخلاصة:

في الحقيقة، يشدني ذلك الشخص الذي يفيض بالفكرة وتلمس قوة متجددة في وعيه، يتحدث بنباهة، ودائماً لديه فكرة جاهزة ليقولها، إنه يتمتع بوضوح ذهني حول كثير من المواضيع، حتى لو لم يستدعي لك كتاباً قط، حتى لو قال الفكرة بلغة عادية. إنها فكرته، إنه لا يكترث ما إذا كان مثقفاً أم لا. لكنه متصل بنبع الوجود الحي، يمارس عقله نوعا من التساؤل الذاتي، وينجح في فك كثير من شفرات وجوده، دونما استعانة بكتاب ما. لا يعني أن هذا أفضل حالا أو أكثر صوابية واكتمالا ممن هو متصل بالنسق المعرفي للبشرية، لكنه -بلا شك- أجدر بالإشادة من ذلك الذي لا يكف عن الغرق في القراءة، ثم ينام ويصحو أشد ارتباكاً من سواه.

مقالات

أبو الروتي ( 14 )

كان المعهد العلمي الإسلامي يتبع الشيخ محمد سالم البيحاني -خطيب وإمام مسجد العسقلاني في كريتر- وكان مدير المعهد هو الأردني ناظم البيطار، الرجل الذي كان مجرد ظهوره يثير فينا الرعب.

مقالات

ما العمل؟

عندما قرأ مقالي «ماذا ننتظر كيمنيين؟»، عَقَّبَ الأستاذ المفكر الإسلامي زيد بن علي الوزير بسؤال: «ما الحل؟»، و«ما المخرج؟»؛ وهو «سؤال العارف». وقد وردَ في الأثر: "ما المسئول بِأعلمَ مِنْ السائل".

مقالات

"أيوب طارش".. اسم من ذهب

ما أكثر ما تعرَّض أيوب طارش لعداوات ساذجة من بعض المحسوبين -بهتانا- على رجال الدين، وخطباء المنابر المنفلتة، ليس آخرهم عبد الله العديني، الذي أفسد دينه ودنياه وآخرته بإثارة قضايا هامشية لا تهم أحدا سواه

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.