مقالات

ذاكرة لامعة وصوت مصفَّى (2-3)

23/09/2023, 08:11:51

يقول عبد القادر الشيباني إنه رأى والده للمرة الأولى عندما بلغ الثامنة (1950م)، وقت عاد من أسمرة حيث كان يدير مطعماً خاصاً به، وأنه وقتها (أي عبد القادر) كان يلعب مع أترابه في وادي القرية. ويضيف: "حينما رأته إحدى النساء المارات بجوارنا  نازلاً من قرية الأكمة من الجهة الشمالية الغربية من ظفار، الذي يفصل شرق بني شيبة عن غربها، قالت لي: هذا أبوك، وكان قادما من قرية (قحفة الشعبة) في شرق بني شيبة، حيث زوجته الأولى خالتي فاطمة الخبتية، التي وصل إلى بيتها، قبل أن يأتي إلينا بلباس قديم (ثوب ومشدة)، لكنه حينما ظهر على الناس بعد ذلك، كان يتزين بملابس بهية كانت تحتفظ بها والدتي في سحَّارة (صندوق خشبي)، وإلى جوارها مواد عطرية مكافحة للعثة، وتقادم الزمن!".


في الفترة القليلة، التي عاشها مع والده، عبد الله سعيد أحمد، في سفرته الأخيرة، اكتشف فيه العديد من الخصال، ومنها  كرمه وحنانه، الذي كان يغمر به الأم، ومساعدة المتعبين، إذ كان يقوم بإيصالهم إلى المداويين الشعبيين في شرق بني شيبة (الغوري)، وغرب بني شيبة (الشيخ صالح)، وبعد عامين (1952م) فقط توفي الوالد، ودُفن في بني شيبة الغرب.


حينما بدأت القرية تفقد حلاوتها عند الطفل؛ بسبب هجرة أترابه إلى عدن، وقسوة معلم مدرسة (العَدوف) في قرية القُزحي عبد الرحيم القاضي، قرر الفرار إلى عدن التي كانت تتمرأي له بجمالها، وسعة العيش فيها من أحاديث العائدين منها، ومنهم صديقه علي معمر، الذي عاد لابساً فوطة مثبتة بحزام أخضر عريض (الكمر)، وكوفية، وقميص ملون، ويتعطر بعطر "زهر الغرام".


 حين اتخذ قراره، وهو في التاسعة تقريباً، لم يخطر بذهنه سوى طبَل القرية (ساعي البريد والمرسال)، الذي يمت له بصلة قرابة بعيدة، وكان اسمه "العُسيق"، ويوصل مراسيل المهاجرين وهداياهم ونقودهم من  عدن وخارجها إلى أسرهم في القرى، ومنهم أشقاء عبد القادر، الذين استقروا في جدة، بعد انتقالهم من أسمره ومصوَّع على الساحل الغربي للبحر الأحمر. ولم يمر بذهنه من سيؤويه في عدن غير خال له، يحظى بالمكانة فيها كما كان يسمع، وكان الطَّبل ذاته يوصل منه أشياء وهدايا لشقيقته فاطمة محمد سالم (والدة عبد القادر).


قرر ذات مساء مُمطر اللحاق بالطَّبَل، الذي تتبع أخباره، فقيل إنه يتواجد لأيام في "التربة" قبل رحلته القادمة إلى عدن، ومباشرة بعد الفجر انطلق عبر طرق بعيدة للحاق به، فتحاشى المرور بقرى بني شيبة الشرق، حيث ينتشر في بعض قراها أقرباء له، وفضَّل سلك طريق "موقعة" في بني محمد، ومنها إلى وادي المُنّي، ثم عبَر  فالجُنِّد وصولاً إلى شباعة، التي وصلها ظهراً منهكا وجائعاً، وحينما كانت النسوة يسألنه عن وجهته، كان يقول إنه يبحث عن العُسيق (لقب اكتسبه من الاسم الشعبي للثعلب)، وحينما يسألنه عن اسمه كان يقول إنه ابن غالب التمار (بائع تمور مشهور) في تلك النواحي، وحين وصل إلى منطقة المنصورة فاجأه مطر غزير، وأوعزت له إحدى النساء بدخول مسكنها (يتكنَّن) من شدة المطر، وحينما رأته جائعاً حافياً أعطته قطعة خبر مع قهوة حالي، التي تذوقها لأول مرة، كما قال..


حين خرج من منزلها، كان قد يئس من الوصول إلى مكان الطَبَل، لهذا حين وجد مجموعة من الحمَّارة (مُلاك حمير) في الجوار أرد مرافقتهم، حينما قالوا إنهم ذاهبون إلى السوق، وكان في ظنه  مقصدهم "سوق السبت" في منطقة بني شيبة، غير أن سوقهم، الذي سيقصدونه، هو "سوق الخميس" في نواحي البرح، لكنهم دلوه على طُرق مختصرة للعودة إلى القرية.

عاد إلى القرية، في وقت متأخر من المساء، بمساعدة أحد الأشخاص من قرية مجاورة، ووجد أمه في حالة يُرثى لها، بسبب خوفها من فقده بعد أن فقدت أخاه الأكبر هائل عبدالله، الذي هج من القرية في اتجاه الحبشة، ولم يعد، وعاد بعد سنين طويلة أبناؤه وبناته، الذين اكتسبوا من صفاته "الطيبة والحنان" الشيء الكثير.


بعد أقل من عام سيتحقق حلم عبد القادر بالسفر إلى عدن، برفقة أخيه الكبير، سعيد عبدالله، الذي كان قد عاد إلى الشرق من مدينة جدة، حيث كان يمتلك مطعماً مشهوراً هناك اسمه "مطعم الطاووس".. عاد بهدايا كثيرة محمَّلة على جَمَلَين، وبغلة سمينة، ونقود ذهبية، أسالت لعاب الجميع.

كان يتحرك وهو محاط بكثير من الشخصيات الاجتماعية في المنطقة، التي تجامله وتخدمه، فمنهم من يقود البغلة، ومنهم من يمسك بالمظلة، حتى إن أحدهم نَسب إليه رمية أصابت الهدف في جمع الغوري (مولد شعبي كبير كان يُقام في المنطقة)، حتى يحوز على ثناء الناس.

قال عبد القادر: "انتقلت إلى الشرق استعدادا لمرافقة أخي سعيد في رحلة عودته إلى جدة عن طريق عدن، وكانت الشرق بالنسبة لي أشبه بمن ينتقل من القرية إلى المدينة، ومن الريف إلى الحضر، ومن الجحيم إلى الجنة، كان لي بها خالة حنونة اسمها تقية محمد سالم، تستقبلني وتطعمني أشهى ما لديها، وتتركني أنام على سرير مرتب برائحة زكية.. كان لي أقرباء بسني يدرسون في مدرسة قرية الهزيز، التي كانت أحسن حالاً من  مدرسة  القزحي، وكان المعلم فيها الفاضل محمد عبد الوهاب نعمان، شقيق الشاعر الفضول، الذي درس على يديه الكثير من  الأسماء، التي صارت ملء السمع والبصر في المنطقة".


كان في الشرق أهم أسواق المنطقة، وهو سوق السبت، الذي يجيئه المتسوقون من القرى والمناطق القريبة والبعيدة، وتعرض فيه البضائع التي تنقل على ظهور الجِمال والحمير، حتى إن متسوقات معروفات من قرى الغرب كن يحملن قففهن في أسحار السبت، بعد أن يجمعن طلبات نساء القرى من الأيام السابقة، ثم يصعدن الجبل، ليهبطن إلى الجهة الأخرى، ابتداء من وادي النقيل مرورا بمحاذاة قرى عُشرات والشعبة والحبيل والظهرور، وصولاً إلى السوق، ويعدن قبيل الظهر محملات بكثير من الحاجيات، ومن جديد يصعدن النقيل ويصلن قرى الغرب عصراً, ويستقبلن استقبال الفاتحين، بعد أن عبَّدت أقدامهن الحافية طُرقات الجبل، وشبَّعن ضياحه في الجهتين بأصوات مهاجلهن وغنائهن في ذهابهن والإياب.

إن متسوقات أخريات يجئن من قرية عرش، وما حواليها، يسلكن طُرقا أخرى غير نقيل السحب للوصول إلى سوق السبت، وهي طريق نقيل "الشُحِّط"، التي تمر عبر قرية "المدهف"، وصولاً إلى السوق.

(يتبع)

مقالات

أبو الروتي ( 14 )

كان المعهد العلمي الإسلامي يتبع الشيخ محمد سالم البيحاني -خطيب وإمام مسجد العسقلاني في كريتر- وكان مدير المعهد هو الأردني ناظم البيطار، الرجل الذي كان مجرد ظهوره يثير فينا الرعب.

مقالات

ما العمل؟

عندما قرأ مقالي «ماذا ننتظر كيمنيين؟»، عَقَّبَ الأستاذ المفكر الإسلامي زيد بن علي الوزير بسؤال: «ما الحل؟»، و«ما المخرج؟»؛ وهو «سؤال العارف». وقد وردَ في الأثر: "ما المسئول بِأعلمَ مِنْ السائل".

مقالات

"أيوب طارش".. اسم من ذهب

ما أكثر ما تعرَّض أيوب طارش لعداوات ساذجة من بعض المحسوبين -بهتانا- على رجال الدين، وخطباء المنابر المنفلتة، ليس آخرهم عبد الله العديني، الذي أفسد دينه ودنياه وآخرته بإثارة قضايا هامشية لا تهم أحدا سواه

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.