مقالات

ذاكرةٌ لامعةٌ وصوت مُصفَّى (3-3)

29/09/2023, 08:12:25

حين انتشر خبر قُرب عودة أخيه سعيد عبدالله إلى جدة عبر عدن توافد إلى قرية (قحفة الشعبة) الكثير من الأشخاص لوداعه، فتحوَّل الوادي إلى ملتقًى يومي، وفي صبيحة يوم السفر رافقه، مع رفاقه  من المسافرين، إلى خارج المنطقة من كان متواجداً من الرجال في القرية والقرى المجاورة، فشكَّل الجمع موكباً كبيراً، أشعل في النساء الفضول الكبير، فصعدن إلى أسطح المنازل في القرى، التي مروا بها، لمتابعة الموكب.

اختار المسافرون يوم الاثنين موعدا لسفرهم؛ لتفاؤل الكثير من الناس بالسفر فيه، ولأنه يتوسّط الأسبوع، ويأتي بعد يومين من وعد السوق الأشهر (سوق السبت)، حيث كانوا يلتقون.

كانت نساء المسافرين والمودعين أيضاً وقريباتهم قد توقفن عن كنس بيوتهم في ذلك النهار، لاعتقادهن أن من يُكنس داره بعد خروجه مسافراً لا يعود مطلقاً، ولا بأس إن تم كنسه قبل خروجه بقليل.

كان سعيد عبد الله وحده من يركب بغلته، متبوعة بحمارين يحملان أغراض المسافرين الثمانية، ووحده عبد القادر -أصغر المسافرين سناً- لم يكن يحمل معه غير كيس قماشي قديم، به قليل من الكعك الذي صنعته له والدته، وأشياء لا تُعنى، تخلص منها لاحقا.

كان أيضاً هناك مسافر صغير ضمن المجموعة، وهو عبد الرحمن سعيد (ابن شقيق عبد القادر)، يكبره بأربع سنوات تقريباً.

تجاوز المسافرون، ومن تبعهم للتوديع، قرى "الهزيز" و"المتلة" و"السويقة"، وصولاً إلى "نقيل تِماح"، الذي استغرق صعوده بعض الوقت بسبب وُعُورته، ومنه إلى الشماية الغربية..

وفي مركز "الرجاعية" كان بانتظارهم  مجموعة من مُلاك الحَمير مع حَميرهم، سبق وأن تم الاتفاق معهم بواسطة مرسال قبل أيام، وذلك لإيصالهم إلى المُصلى في جهة الأحكوم.

بعد استراحة قصيرة في المركز، تناول فيه المسافرون القليل من الفطير والقهوة، انطلقوا باتجاه "هيجة أسس"، بعد أن عاد آخر مُرافقين بالبغلة والحَمير، التي حملت الأغراض من القرية إلى المركز.

قال عبد القادر: تركت الحِمار، الذي حملني بعد وقت قصير من ركوبي عليه؛ بسبب حركته الكثيرة (تقفزه)، وبسبب انشغالي بمشاهدة المناظر الآسرة في المنطقة، المشهورة بخضرتها وغيولها، وبعد ساعات، من المشي اللذيذ، وصلنا إلى منطقة (مُعادن) في قَدَس، وبعد تجاوزنا لمُعادن، وصلنا نقيل (بسيط)، البسيط في تسميته والوعر في طرقه، ومنه إلى كدرة قدس.. وصلنا المُصلى مساء، وبتنا فيها ليلتنا الأولى، منتظرين بابور عبد الرب سفيان المشهور (الأنتر ناش)، الذي لم يكن قد وصل، ولا أي من السيارات الأخرى.

لم تصل أيضاً في الصباح، فاضطر المسافرون إلى اتخاذ الحَمير مرّة أخرى وسيلة مواصلات، إلى منطقة "المفاليس"، التي وصلوها ظهراً، حيث تناولوا الغداء في أحد مقاهيها، وكانت دهشة الطفل تكبر مع سؤال: كيف للرجال أن يقوموا بأعمال النساء في تحضير الطعام وصناعة الخبز؟

وصل البابور عصراً، وكان بلون كابي ومزينة كبينته بشناشيل كثيرة، وله بُوق يصدر أصواتاً منغَّمة كلَّما ضغط على زرها السائق، وهو ما أدهش الطفل الصغير عبد القادر من هذه الآلة العجيبة، التي لم يصفها أترابه العائدون إلى القرية كما يجب، ولم يصفوا رائحته وشكل سائقه  بكوفيته المشغولة بعناية.

جلس إلى جوار السائق سعيد عبدالله وأحد مرافقيه الكبار، وصعد البقية إلى حوضه الخلفي المحاط بعوارض معدنية متداخلة ومشغولة، حتى يستطيع المسافرون الإمساك بها حين يقفون، أو يستندون عليها، ويتكئون حين يجلسون.

قال عبد القادر: إن شاباً صغيرا يكبرني  قليلاً بالعمر، ولفحت وجهه الشموس الحارقة، كان يحظى بأهمية كبيرة من السائق والركاب الذين يعرفون دوره في الرحلة.. كان يُطلق عليه "جُروشبي"، وكنت أظنه اسماً شخصيا له، وكان يُعطي الأوامر بتوزيع المسافرين وأحمالهم على أجزاء البابور، ومعه مجموعة من القطع الحديدة  المسطحة العريضة.. كان الهدف من توزيع الأحمال هو تجنيب غرقه في الرمال الناعمة (تغريزة)، التي تسبق الخط الاسفلتي، غير أن هذه الاحتياطات لم تجد نفعاً، فقد غرق البابور في "خبت الرُجاع"، أكثر من مرة في الليل غير أن القطع الحديدية التي  بحوزة الشاب، وكان يطلق عليها "البِتّر  ومفردها بِتره"، لعبت الدور الحاسم في اخراج عجلات السيارة الأمامية والخلفية من بين الرمال الناعمة، التي كانت لم تزل تحتفظ بقليل من حرارة النهار القائظ.

وصل المسافرون إلى منطقة "الفَرْشة"، في وقت متأخر من الليل، فناموا فيها ليلتهم الثانية في مقهى متواضع إلى جوار حَمير وجمال المسافرين، وفي الصباح الباكر تناولوا فطارهم من خبز ساخن حُضِّر على عجل مع دلَّة فخارية كبيرة (جمنة) من القهوة الحالي، ثم غادروا على البابور نفسه، الذي لحسن الحظ لم تغوص عجلاته في الرمال، التي كانت لم تزل ندية باردة في ذلك الصباح الباكر البعيد.

ما لفت نظر الطفل الصغير هو تلك المنطقة المفتوحة على سماء زرقاء بدون أي غيمة شاردة ورمل ناعم يقترب من الصفرة، دون أن يترأى له جبل أو شجرة، غير بعض الحيوانات (جمال وأغنام) تلتقط أرزاقها من الكلا الشحيح تحت شموس حارقة، وكان السائق حينما يلحظ، بعد وقت غير قصير، ظهور سيارة أو بابور نقل يتهادى قادماً من الجهة المعاكسة، يبدأ بإطلاق أصوات منبه البابور القوية الموضوعة  أعلى الكبينة الأمامية.

يقول: مررنا بقرية "الوهط"، ولم تكن وقتها غير بيوت صغيرة مصنوعة من بقايا الخشب والقش، لكن شهرتها في صناعة الحلوى كانت تسبقها، وأتذكر أن سعيد أخي اشترى كمية منها لأخذها هدايا لأصدقائه هناك في جدة.
 
من الوهط وصلنا إلى منطقة "صَبِر"، وبين المنطقتين، رأيت للمرة الأولى مساحات خضراء صغيرة على الجانبين، وهي في الغالب مزارع خضروات، تتوزَّع فيها القليل من الأشجار، ولم يمضِ وقت طويل حتى ظهر أمامنا الخط الإسفلتي، الذي كنت أظنه تشكِّل بفعل مرور عجلات السيارات السوداء عليه، وإنّ سرعة البابور بدأت بالتزايد، وإن نفخات ريحية بدأت بصفع وجهي الصغير، الذي كان يتعرق بفعل الحرارة العالية، التي لم أكن معتاداً عليها، حتى في الأصياف الحارقة في قرانا الجبلية.

بين نقطة دار سعد (نمبر 6) - حيث كانت أول نقطة تفتيش إنجليزية - وصَبِر بدت لي حركة السيارات أكثر نشاطاً، وبأشكال وأحجام مختلفة، وهي السيارات التي كانت تسلك الخط الإسفلتي بين الحوطة (عاصمة السلطنة العبدلية) ومدينة عدن.

في النقطة، كانت دهشته الثانية من رؤية أشخاص مختلفين بلون بشرتهم الأبيض الفاقع، وملابسهم القصيرة المميزة، والكوافي المسطحة، التي على رؤوسهم..

يقول: طلبوا منا النزول من السيارة، وكنا معفرين بالتراب وملفوحين، بملابسنا المتواضعة، عدا أخي سعيد ومرافقه اللذان جلسا إلى جوار السائق طيلة الرحلة، وبدا أنهما لم يعانيا مثل بقية الركاب، الذين كانوا في الحوض. وبعد تفتيش دقيق لأغراض الركاب تركونا نمضي.

كان الوقت يقترب من الظهر تماماً، والحرارة في أشدها، ولم يجدِ معها نفعا تغطية حوض البابور بقطعة قماش ثقيلة (طربال)، حين سمعت من كلام الركاب أننا نقترب من الشيخ عثمان، بعد سبع ساعات من السفر المرهق واللذيذ على آلة حديدية، كان قائدها أشبه بنجم في المجتمع، وإن مساعده الجروشبي (تعريب لهجوي لكلمة صبي الجارج) يحظى بمكانة يتمنَّاها طفل صغير مثلي.

مقالات

أبو الروتي ( 14 )

كان المعهد العلمي الإسلامي يتبع الشيخ محمد سالم البيحاني -خطيب وإمام مسجد العسقلاني في كريتر- وكان مدير المعهد هو الأردني ناظم البيطار، الرجل الذي كان مجرد ظهوره يثير فينا الرعب.

مقالات

ما العمل؟

عندما قرأ مقالي «ماذا ننتظر كيمنيين؟»، عَقَّبَ الأستاذ المفكر الإسلامي زيد بن علي الوزير بسؤال: «ما الحل؟»، و«ما المخرج؟»؛ وهو «سؤال العارف». وقد وردَ في الأثر: "ما المسئول بِأعلمَ مِنْ السائل".

مقالات

"أيوب طارش".. اسم من ذهب

ما أكثر ما تعرَّض أيوب طارش لعداوات ساذجة من بعض المحسوبين -بهتانا- على رجال الدين، وخطباء المنابر المنفلتة، ليس آخرهم عبد الله العديني، الذي أفسد دينه ودنياه وآخرته بإثارة قضايا هامشية لا تهم أحدا سواه

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.