مقالات
روحانية الجسد في رمضان
لعلّ أهم ما يمكن أن يتحقق للمرء من وجود شهر رمضان، هذا السلوك السنوي المتكرر بطباع وعادات مختلفة، هو أنه مناسبة للبدء من جديد، دورة لمحاولة تأسيسية في الحياة، إنه فرصة زمنية للإحساس بنوع من الأمان الوجودي، نقطة ارتكاز وسط عالم يموج بالفوضى وتلاشي اليقينيات. هو مناسبة دينية بالطبع، لكنه يتضمن معنى شاملا يتعلق بحياة الإنسان بشكل عام.
رمضان فسحة لتجربة نفسية مختلفة، وإعادة ترتيب تصوراتك للحياة بطريقة أكثر فاعلية، وبلا تشويشات مُربكة. فرصة للتحديق في جذورك، في كيانك الوجودي، المادي والمعنوي، وإزالة كل التوترات بين عناصرك الكلية، بين الروح والجسد، بين العقل والعاطفة، بين كينونتك الصافية، وكل ما استحدثته الأيام فيك، طوال العام، وربما طوال عمرك كله.
كثيرًا ما يربط البشر بين رمضان وفكرة "الروح"، يرونه شهرًا خالصًا لوجه الروح؛ غير أنّ هذه الفكرة -وإنّ صحّت كمعنى عام- هي في جوهرها غير دقيقة. فرمضان ليس حكرًا على الروح، إنه شهر لإعادة ضبط كل قوى الإنسان، والبداية من تنقية الجسد، البداية من حرمان الجسد من الطعام طوال النهار، وما سمو الروح وطهارة النفس سوى نتائج عرضية، لهذا الطقس الديني؛ أعني الصيام، وقد نجح في إعادة ضبط الجسد وتأهيله للخفة الشاملة.
رمضان إذاً، طقس ديني للعناية بالجسد؛ إنه تمرين جسدي أولًا وأخيرًا، مناسبة لتحرير الجسد من مخلفات التغذية، وهو بذلك لا يهدف لقمع الجسد بل تأهيله؛ إنه موسم ل"روحانية الجسد" وليس شهرًا لصراع الأضداد. ما يعني تجاوزه لثنائيات، الجسدي والروحي. فالصوم ليس شعيرة لبعث الخصام بين قوى الإنسان، هو شهر للتصالح الحميمي بينها. زمن إانهاء النزاع القسري بين ما هو نفسي وروحي، عاطفي وعقلي. مهرجان لإنهاء التشظي واستعادة الوحدة الباطنية للإنسان، الوئام الكبير.
ربما لهذا السبب يعتني البشر بطقوس الطبخ وفنون الطعام بشكل أكبر في هذا الشهر. وهم بذلك يؤكدون بشكل عفوي رائع أنّ الصيام طقس جسدي، ويتطلب عناية حميمية بالوجبات الرمضانية، كما لو كانوا يجهزون لأجسادهم مكآفات، نظير نجاحها في تأدية ما ألزموها به. فطورك المميز جائزة لصبرك طوال النهار، تكريم من النفس؛ لأنك استجبت لأوامر الإرادة وامتنعت عن الطعام كما أمرك به الله، وكما ألزمت به نفسك.
رمضان شهر الروح، نعم. لكنّ الروح لا يمكنها التسامي لولا تهيؤ الجسد. لهذا فالسمو الروحي يسبقه تروحن جسدي. فالجسد هو الأرض فيما الروح السماء، لكن الروح لا تكون قادرة على معانقة موقعها في الأعالي، إلا حين يتحرر الجسد أولًا، والصيام حرية للجسد. هكذا يتقلص الفارق بين الروح والجسد، يغدو جسدك أخف، ومعه تكتسب روحك شفافية. يشفّ باطنك حد تطابق الخارج مع الداخل، وبقدر التآزر بين الروح والجسد، يتلاشى الفارق ويغدو كيانك كله نورا. هذه لغة المتصوفين الكبار، وهكذا تزول التناقضات عندهم بين الروح والجسد. وتلك غاية من غايات الصيام، وما يتحقق منه.
يتحدث المفكر المغربي عبد السلام بنعبد العالي عن فكرة مقاربة، يقول: "لا يعود الجسد، والحالة هذه وعاء بلا معنى، وإنما يغدو كيانًا روحانيًا". صحيح أن هذه الروحانية لم تكن تكفّ عن التجلي من حين لآخر، إلا أنّها تظل مقموعة مكبوتة متى طغت الأخلاق على حساب الصحة والجمال، وتحوّل "بناء الذات" إلى "تهذيب" للجسد، بل إلى قمعه وكبته، بحيث لا يتمّ "غذاء الروح" إلا على حساب فصل أوّلي بينها وبين الجسد.
يكشف شهر الصّيام إذًا أن الجسد ليس "كائنًا بيولوجيًا"، وإنّما هو "حساسية روحية" تجسّد قيمًا، وتحمل دلالات ومعاني.
على هذا النحو، فإن الشعائر التي تواكب شهر رمضان لا تعمل في نهاية الأمر إلا على رعاية "روحانية الجسد" هذه، مبيّنة أن الجسد لا تتحكم فيه قوانين الفيزيولوجيا وحدها، وإنّما هو يخضع لسلسلة من الأنظمة التي تشكّله. فهو مشدود إلى إيقاعات العمل والاستراحة، مرتبط بالأعياد والمواسم، متجرع لـ"سموم" الأغذية، متشرب للقيم التي غرسها المجتمع، وأفرزها التاريخ. الجسد قواعد أخلاقية.
وقد سبق لنيتشه أن أكّد أن المطبخ لا يقتصر على رعاية الأجسام، وإنما هو يحدّد أساليب للعيش وعلائق بالعالم، وأنماطًا للوجود بكامله. أي أن نوعية الطعام، والعناية بالجسد، فكرة تبلغ من الخطورة لدرجة أن مصير الفرد، وربما الوعي البشري كله، مرتبط بها. فروحك وقوة تفكيرك وإدراكك لوجودك له علاقة أصيلة بجسدك، وما تطعمه إياه أو تحرمه منه.
كلمة أخيرة:
الصيام طقس جسدي، تمامًا كما هو دعوة خلاقة إلى التمرين الروحي. بل هما أمر واحد في النهاية. وهي دعوة لا تستلزم نبذ الجسد وتعميق الشعور بالذنب، بل سد الفجوات بينهما. هذا إلى جانب أن مجتمعاتنا لا تحتاج إلى مزيد من المخاوف، وتقريع النفوس المتعبة بقدر حاجتها إلى الفيض بأمان كبير؛ لتقليص الفجوة بين الإنسان وقوة الغيب. فسحة لتقوية رباطك بما هو بعيد، لمدّ جسورك نحو الوراء، لكأنها مناسبة للاتساع لخلق مساحات جديدة بداخلك، للنمو والتلاحم بالفيض الإلهي الكبير. يحتاج اليمنيون تحديدًا إلى خطاب روحي يلملم شتاتهم، ينهي الانفصام في وعيهم بوجودهم، يضاعف شعورهم بالحرية، يوقظ جدارتهم بالسمو، بالخفة الروحية، واستحقاقهم لكل أنوار السماء.
كل عام وأنتم رموز للحرية. كل عام وأنت سيّد الأشياء كلها أيها الإنسان، وسيّد على نفسك أولًا وأخيرًا.