مقالات

رُوح المدينة وفاكهتُها

30/07/2021, 09:28:35

بسنِينه التي تزحف نحو التسعين، ولكْنته الحاشديّة المعتّقة، ورُوحه الشابة التي تجتذب العشرات من الوجوه يومياً من سكان المدينة القديمة وخارجها إلى مقهاه المتواضع في الرُّكن الجنوبي لحارة 'الأبهر' - بالقرب من حمامها الشهير ومسجدها التاريخي –  زوّاره الكُثر والمميّزون لا يستطعمون فقط قهوته وقِشْره وشاهيه، الذي يصنعه بنفسه  بالطريقة ذاته منذ أكثر من نصف قرن، وبدون معاونة أحد، وإنما يستطعمون فُكَهَه ومرحَه و"حَشُوشَه" المُحبّب.

ذات مرّة كنت أتحدث بحماس وانفعال عاطفي كبير عن صنعاء، وأسواقها، وحواريها، وبساتينها، ومطاعمها، وحلوياتها، في حضرة مجموعة من الأصدقاء، فقال لي أحدهم: هل تعرف يحيى النبوص؟
قلت: لا، ومن يكون هذا النبوص؟
فقال: أنت إذنً لا تعرف صنعاء!! فصعقني حكمه.

ومن ساعتها، بدأت أسأل عن الرّجل حتى تكتمل معرفتي بالمدينة. وقلت في قرارة نفسي: من سيدلني عليه، بالتأكيد واحد من أصدقائي، أو زملائي من أبناء المدينة.
اتصلت بزميل قديم من بيت "الخباط" في "باب اليمن". وقلت له: من هو يحيى النبوص؟فضحك كثيراً، وقال: "ما تشتي من عمي يحيى يا محمد؟". فقلت: أريد معرفته، لإشباع فضول ما يتلبسني!!

فتواعدنا صباح اليوم الثاني. فأخذني في السابعة إلى حانوت صغير وضيّق في حارة "الأبهر"، سبق وأن مررت بجواره كثيراً، دون أن يثير فضولي مطلقاً. حانوت بباب خشبي عتيق، تصعد إليه بدرجة وحيدة، فيكون مقتعداً على يمينك رجلٌ مسنٌ، بقيافة عجيبة (كُوْت على ثوب ملوَّن، وسُماطَة مربوطة بعناية، وشَال كشميري على كتفيه اليابسين)، مثل عِقَال القرى، وأمامه طاولة مستطيلة من الحديد، مغطَّى سطحُها بقطع من "المُوكِيت" القديم، يضع عليها صحوناً معدنية، يضع فيها  كؤوساً ودلالاً من المعدن بأحجام متعددة، وفي بطن الطاولة المفتوح لجهته تتناثر الكثير من مستلزمات تحضير القهوة والشاهي، وعلى يمينه يتموضع 'بوتجاز' أسود بثلاث عيون دائرية، مثقبات على إحدى عينيه، يضع وعاء معدنياً، يغتلي به الماء، وفي أخرى يضع أبريقاً معدنياً أبيضَ ممتلئاً بقِشْر البُن المغلي، ويترك الثالثة مشتعلة حتى يحط عليها الدلال التي يستخدمها لتحضير طلبات الزبائن، الذين يتوزّعون على كرسي حديدي طويل، وأمامهم طاولة مصنوعة من المادة ذاتها، لكنّها أرفع قليلاً من الكرسي. وفي الزاوية القريبة منه، بقايا كرسي معدني، وأمامه مباشرةً كرسي بلاستيكي متهالك، لهذا يكون الزبائن بالقرب منه، يناولهم ما يطلبونه بسهولة ويُسر، ويعيدون إليه الكؤوس فارغة، فيقوم بنفسه  بغسلها، وتنظيفها في وِعائيين معدنيين مملوءين بماء ينزعه من خزَّان حديدي، يحتل مساحةً كبيرةً من الحانوت.

أول ما دخلنا المكان المزدحم، قال له: يا عم يحيى هذا صاحبي، يريد التعرّف عليك، "قد شُهرتك وصلت إلى تعز". فضحك الجالسون.
وبعد الترحيب بقليل، بدأت وليمة الفَكَه والمَرح في المحل. تحوّل بعدها الشيخ الوقور إلى شاب في العشرين، يَرد على حَشُوشِهم، وتنْكِيتهم، ومرحِهم بالكيفية ذاتها، ساعتها أيقنت لماذا قال صاحبي إنّي لم أعرف صنعاء.
من وقتها، وأنا أتردد على المكان باستمرار، حتى وإن لم أقْعد  لتناول القهوة القِشْر، التي اُفضِّلها عنده أكثر من غيره، وصار يفتح لي قلبه للحديث عن تاريخه الطويل الذي يتذكَّر تفاصيله بدِقة عجيبة مذ كان يافعاً،حينما قُتل الإمام يحيى، ونَهب القبائل مدينة صنعاء.

يقول: كنت حينها في بداية الشباب في قرية  بعيدة في 'نجد حبور' في بلاد 'حاشد'، حينما سمعنا أن 'المدسترين' الكفار قتلوا إمام المسلمين، خرج المشايخ والقبائل لنصرة الإمام في صنعاء، ورجعوا وهم محمّلين بالطِّيقان (النوافذ)، والأبواب، والثياب، ويسوقون أمامهم القُراش (الحيوانات)، وبعدها عملت مع العسكر في شَقِّ طريق 'غولة عجيب' و'حاشد' و'صعدة'.

يرد في كتاب المرحوم علي النوبي (مسيرة اليمن) ص 32: أنه [تم الحُكم على طلاب الرئيس جمال جميل في المدرسة الحربية ومدرسة الإشارة. وبعد استعطاف الإمام الجديد، العمل بالسخرة لشق طريق صنعاء- صعدة، مروراً بعمران 'وريدة' و'خَمِر' و'حُوث' و'حرف سفيان'، ترافق ذلك مع طلب سيف الإسلام الحسن "من مشايخ المناطق الشمالية، الذين تمر الطريق في مناطقهم، تشغيل أفراد القبائل سُخرةً، لاستحداث طريق تصلح لمرور المواتر (سيارات النقل الكبيرة) الحمَّالة عبرها من صنعاء إلى صعدة، لنقل معونات مولانا أمير المؤمنين لرعاياه من القمح الأمريكي، وغيره من هبات الإمام"]، اشتغلت مع حاكم السُنَّارة في صعدة لفترة، بعدها دخلت مع ابن عمٍ لي إلى صنعاء، واشتغلت في "باب السَّبَح"، أبيع "التين، والبَلس، والبرْقوق، والسِّفرجل، والقات السَّوْطي"، وكان "حيدر فاهم" يدعمني.

جاء واحد من زبائنه إلى الدُّكان، وقال له إن الصينيين يشقون طريق الحديدة – صنعاء، فترك الدكان، والتحق بهم.
وقال: "اشتغلت معهم من 'خميس مذيور' في 'الحيمة الخارجية' إلى 'باب اليمن'، وكانوا أحسن ناس، ومنظَّمين، وطيِّبين، ولا يتعَبون من الشغل".

وحينما قامت ثورة سبتمبر "تعسْكرت" مع الشيخ عبدالله بعد خروجه من الحبس، وإقامته في بيت الأمير "صمصام" في "الأبهر"، ومن هنا بدأت قصتي مع هذا المقهي، فقلت له: اشرح لي؟
فقال: كان الشيخ والمرافقون حقه، وعسكر البوابة أول ما يشاهدونني يقولون لي يا يحيى "سير إدي لنا شاهي وبِن". فكنت أخرج إلى عند صاحب مقهاية، خارج السور، وأرجع مع طلباتهم، حتى جاء يوم قُلت فيه للشيخ: بدل كل هذا التّعب، سوف أفتح مقهاية بالقرب من البيت، وأكون أبيع للعسكر شاهي وبِن. فقال: والعَيب؟
قلت: "ماشي عَيب في طلبة الله، قد سار زمن الإمام يا شيخ".

فانتفض الرجل، وقال: حق أمدافور (وابور الجاز) عليَّ، وحق القلاصات كمان والبِن.
ومن ثاني يوم اكتريت هذا الحانوت من بيت المترِّب بنص ريال، واشتريت الدافور السويدي، والقلاصات، والبِن، والكراسي بخمسة عشر ريالاً، فصرت واحداً من أبناء المدينة".

وعن أسرته وعائلته ومسكنه في القرية يقول:
تزوجت أول مرّة، وأنا متقدّم في العمر قليلاً، بمساعدة من الشيخ مجاهد أبو شوارب، حينما كان محافظاً في حجة، وزوّجني بألف ريال، لكنّها ماتت وهي تولد بطفلها الأول. بعدها بسنوات تزوّجت بواحدة من بيت الرَحَبي هنا، ولم يعش لي منها أطفال، فقد أسقطَت لثلاث مرات. ثم أخذوني أنسابي (أقرباء الزوجة) بضغط منها إلى عند طبيب (أحول)، قرر لي إبر تَسبَبين بقطع الذَّري نهائياً.

قال إنه لم يتملّك مسكناً في صنعاء على الإطلاق، ويعيش مع زوجته في بيت قديم أعلى مقهاه وبالأُجرة، وأن مسكن العائلة في 'نجد حبور - ظليمة' في 'حاشد' سقط من شدة الأمطار قبل ثلاث سنوات فوق ثور كبير، كان يُعِده سكان القرية ليكون أضحيتهم، فنعاه مع المسكن الجميع.

قال: إن أحلى أيام صنعاء حينما كانت تمتلئ بالسُيّاح، وحينما كان العديد من الأجانب يتملكون مساكن فيها، ويحولونها إلى تحف فنية، ومنهم الإيطالية "بلانكا"، التي اكترت بيتاً في 'بستان شارب'، وكانت تتردد على المقهى لشرب 'القِشْر'، وتخلق حالة مُدهشة من المرَح والضحك حينما تمازحَني، وأيضاً الفرنسية "شيري"، التي كانت تهتم بي، وتحضر لي الأدوية، وفرنسي كان يدق على "القنبوس"، ويغنّي صنعاني [يقصد جان لامبير، صاحب كتاب "طب النفوس"، الذي تخصص بالغناء الصنعاني، وأدواته الموسيقية، مثل: العود القديم الذي يسمونه "القنبوس"، وغيرهما].

كان السائحون يمرون على المقهى، ويتناولون القِشْر والبُن والشاهي، ويلتقطون لي الكثير من الصُّور. قال لي بعض المسافرين إنهم وجدوا صُوري في ألبومات سياحية عن اليمن في سفارة اليمن في ألمانيا.
عن برنامجه اليومي، يقول إنه لم يزلْ ينهض فجراً، ويُصلِّي في الجامع الكبير، ثم يفتح محله لاستقبال الزبائن حتى العاشرة، يعود بعدها إلى البيت، ويرجع لفتح المحل من بعد العصر حتى  العشاء. وإصراره على مواصلة عمله، وهو بهذا السن المتقدم، لأنه يمدّه بالحياة كما قال، عوضاً عن أن يمد يدَه للناس.

مقالات

أبو الروتي ( 14 )

كان المعهد العلمي الإسلامي يتبع الشيخ محمد سالم البيحاني -خطيب وإمام مسجد العسقلاني في كريتر- وكان مدير المعهد هو الأردني ناظم البيطار، الرجل الذي كان مجرد ظهوره يثير فينا الرعب.

مقالات

ما العمل؟

عندما قرأ مقالي «ماذا ننتظر كيمنيين؟»، عَقَّبَ الأستاذ المفكر الإسلامي زيد بن علي الوزير بسؤال: «ما الحل؟»، و«ما المخرج؟»؛ وهو «سؤال العارف». وقد وردَ في الأثر: "ما المسئول بِأعلمَ مِنْ السائل".

مقالات

"أيوب طارش".. اسم من ذهب

ما أكثر ما تعرَّض أيوب طارش لعداوات ساذجة من بعض المحسوبين -بهتانا- على رجال الدين، وخطباء المنابر المنفلتة، ليس آخرهم عبد الله العديني، الذي أفسد دينه ودنياه وآخرته بإثارة قضايا هامشية لا تهم أحدا سواه

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.