مقالات

صباح المطر.. صباح الخطر

24/08/2024, 10:31:30

خرجت الصباح والدّنيا مطر، وقبل خروجي كان الشيطان يوسوسُ لي، ويخوَّفني، ويُغريني بالنوم، ويقول لي:
"هذي المرة -يا رازحي- لو خرجت ما عاد با ترجع".

وكنت ليلتها قد سهرت إلى الصباح، وخرجت من دون أن أذوق طعم النوم، وفي الشارع لقيت أحد الأصدقاء، وسألني: "أين رايحين هذا الخميس؟!".

قلت له: "رايحين رحلة إلى بني مطر".

قال مستغربا من كلامي:  "مطر ورايحين رحلة إلى بني مطر، والله إنكم مجانين".

وراح يراجعني، ويطلب مني أن أرجع، لكنِّي قلت بيني وبين نفسي: "أي صوت يدعوك إلى العودة للوراء هو صوت الشيطان، سواء صدر هذا الصوت من داخلك أو صدر من صديق ومن شخص قريب يحبك".

قلت ذلك لنفسي ورحت أمضي قُدُما، وكنت فرحا بالمطر، وبدلا من "صباح الخير"، رحنا نحييّ بعضنا بالقول: "صباح المطر".

ولم يكن هناك مطر في بني مطر عندما وصلنا، ولكن كان هناك الخطر يتربَّص بنا: غيوم وضباب كثيف، ثم ما لبثنا أنْ سمعنا صوت الرَّعد، وأبصرنا لمعانَ ضوءِ البروق.

ولحظة هبوطنا إلى الوادي راح المطر يسقط بغزارة، وكان مصحوبا بالبَرَد، وشعرنا كما لو أن السماء قد غضبت لكوننا تحديناها، وخرجنا بين المطر، وراحت تعاقبنا، وترشقنا بحجارتها.

وتذكرت كلام عجائز قريتنا وقولهن إن "البرد حجارة السماء، وإن السماء ترجم بها العُصاة الذين يخرجون من بيوتهم وقت المطر ووقت الخطر".

وكان أن سقطت بَرَدَةٌ كبيرة فوق الآيباد، الذي أصوِّر به، وشَرَخَت شاشته، ووقعت أخرى على نظَّارتي وكسرتها، لكن من حسن حظي أنني كنت قد أحضرت معي نظارة احتياط؛ لذلك بمجرد أن انكسرت أخرجت الأخرى ولبستها.

وأما المشاء "س" فبعد أن وقعت بَرَدَةٌ فوق نظارته وكسرتها فَقَدَ القدرة على الإبصار، ولم يعد يرى، ولم نكن نعلم بأن نظارته انكسرت بالبَرَد، ثم إنه لم يقل لنا إن البَرَد كسر نظارته، وأنه لم يعد يُبصر الطريق.

ثم إننا أنفسنا -لكثرة وشدة وسماكة الضباب، الذي أحاط بنا- فقدنا القدرة على رؤية بعضنا، وبالكاد نرى طريقنا، وبعد الضباب والمطر والبَرَد نزل السيل من الجبال، وملأ الوادي.

لكن الخطر الذي تفاجأنا به بعد أن خلا المطر من حجارة السماء هو أن الصخور والحجارة راحت تتساقط من قمة وعرض الجبل، وتتدحرج باتجاهنا، وكانت الراعية الوحيدة التي أبصرناها خائفة أكثر منا، ولم تكن خائفة من المطر أو من السيل الذي ملأ الوادي وحال بينها وبين العبور إلى قريتها، إنما كانت خائفة من سيل الصخور والحجارة الذي يتهدد أغنامها.

ولشدة خوفها، تناهى إلى أسماعنا صوتها وهي تستنجد بنا؛ ذلك لأن صخرة كانت قد سحقت لها جَدْيًا، وآخر كان عالقا بين صخرتين اثنتين،  ومن خوفها على الجَدْي العالق راحت تنادينا بصوت أقرب إلى البكاء، وتطلب منا أن نتقدَّم لمساعدتها، ونخرج جَدْيَها العالق بين الصخرتين.

وفيما ذهب بعضنا لمساعدتها، ذهب البعض الآخر لمساعدة زميلنا المشاء "س"، الذي كسر البَرَد نظارته؛ ذلك لأنه بسبب عدم قدرته على الرؤية سقط وتدحرج باتجاه الوادي، وكان من حُسن حظه أن صخرة التقفته، واستوقفته، وحالت بينه وبين مواصلة رحلة سقوطه إلى الوادي.

ثم وقد تمكن المشاءون من إنقاذه وإنقاذ الجَدْي العالق بين الصخرتين وجدوا أنفسهم محاصرين بين مطر الجبل وسيل الوادي.

كان المطر من فوقهم والسيل من تحتهم، وكان كل حجر يدوسون عليه كفيلا بأن يخونهم وينزلق بهم؛ ذلك لأن المطر -لشدة غزارته- كان قد جعل الأرض رخوة، وكل شيء رخوا تحتهم، وحتى أجسادهم  صارت رخوة، وأكثر ارتخاءً، برغم أنهم بالمظلات والمعاطف الواقية..
وبالنسبة لي، فبعد أن شرخ البَرَد شاشة جهاز "الآيباد" تعطَّل بسبب المطر، ولم يعد بمقدوري التقاط الصُّور، فضلا عن أن التصوير لم يعد يهمنا بقدر ما تهمنا النّجاة بأنفسنا.

ولأول مرة في حياتي أرى مطرا بتلك الغزارة، وبذلك السخاء، ومع أنه ذكَّرني بالمطر الذي هطل أيام الطوفان وبسفينة نبي الله نوح إلا أن المخيف هو أن المنطقة -التي كُنا فيها- خالية من الشجر، وحتى لو أن المشائين (عددهم 17 ) كانوا جميعهم أنبياء، فلن يكون بمقدورهم أن يصنعوا قارب نجاة؛ بسبب غياب الشجر.

 كانت الأمطار، التي تسقط في المدينة، لا شيء، مقارنة بتلك التي رأيناها تسقط فوق جبال بني مطر.

ولأننا كنا قد أنقذنا الجَدْي العالق بين الصخرتين تجمّلت منّا الراعية، ودلتنا على مَغَارة كيما نحتمي بها من المطر، الذي جمَّدنا، وشلَّ حركتنا، وعطَّل أجهزتنا، وكان اسم المَغَارة هو
"حيد النِّمَارُة".

لكن البعض منا، وبسبب خوفه من أن يكون هناك نَمِر داخلها، أو عِدَة نُمور، رفض الدُّخول وفضَّل البقاء في الخارج بين المطر، رغم أن الرَّاعية حَلَفت يمينًا بأنه لم يعد هناك نُمور، وأنها وغيرها من الرَّاعيات يلجأن إليها وقت المطر، لكننا وقد دخلنا المغارة داهمنا شعور بالخوف.

وبالنسبة لي، رحت أتذكَّر "السيكلوب" ذا العين الواحدة، ذلك الوحش الأسطوري، الذي ورد ذكره في ملحمة "الأوديسا"، وفي الأساطير اليونانية، وخِلْتُه على وشك أن يخرج لنا من قاع المَغَارة ليفترسنا الواحد بعد الآخر.

ومع أن ذلك "السيكلوب" الخرافي لا وجوده له في الواقع إلا أن خيالي المريض دائما ما يجعلني في أوقات الخوف استحضر ما قراته في الكتب من أشياء وكائنات مخيفة، وهو ما يفاقم مخاوفي، ويزيد طين خوفي بلّة مع يقيني بأن كتبنا مضللة، تجعلنا جبناء، وأكثر خوفًا وترددًا في الإقدام على المغامرة، وفي الذهاب وراء الجمال والدهشة، وفي الوقت نفسه، تجعلنا شجعانًا وأكثر جرأة في أن نخوِّف ونخوِّن ونكفِّر ونقتل بعضنا البعض.

ولو أن نبيّنا محمد -صلى الله عليه وسلم- قد أوصانا بالمشي لظهر من يكفِّرنا؛ لكوننا تحدَّينا السماء، وخرجنا نمشي في يوم ممطر، ولو أن مكروها حدث لنا كأنْ انهارت الصخور فوقنا وسحقتنا، أو أن السيل جرفنا؛ أو افترستنا النمور داخل مَغَارة النِّمَارة لسمعتموهم يقولون: "يستاهلوا، من قال لهم يخرجوا وقت المطر ووقت الخطر".

وبعد قرابة ساعة من وجودنا في المَغَارة، توقف المطر، وخرجنا على جوٍ صحوٍ، لكن السيل كان مازال يتدفق في الوادي، ومازال له دويٌّ مخيف، وكان لا بُد لنا أن ننتظر عبوره كيما ننتقل إلى الجانب الآخر من الوادي، حيث الرَّصْدَة (الطريق)، وحيث ينتظرنا الباص الذي سيعيدنا إلى صنعاء.

ولو أننا بقينا ننتظر مرور السيل في الوادي لنعبّر لبقينا ننتظر أياما، وربما انتظرنا إلى نهاية فصل المطر، لكننا عُدنا من الطريق نفسه الذي جئنا منه، مع علمنا بطول المسافة، وبعدم وجود باص ينتظرنا.

وأول ما وصلنا الرَّصْدَة (الطريق) كانت السيارات تمر من جانبنا مسرعة، ولا أحد توقف، أو التفت إلينا، لكن الله كان كريمًا، وكان معنا.

وفي اللحظة، التي خيَّم فيها الظلام وفقدنا الأمل في العودة إلى بيوتنا، مرت شاحنة مخصصة لنقل البهائم، وتوقفت، وقال لنا السائق -وكان خجلا ومستحيا منا- عما إذا كان بمقدورنا أن نركب مع البهائم؟.
 
وما أن قال لنا ذلك حتى فرحنا بالطريقة نفسها التي تفرح بها القرود الجائعة، وهي تتسلق شجرة مثمرة.

والحقيقة أن رحلتنا في هذا الخميس الممطر كانت أجمل من كل رحلات فريقنا خلال السنوات  الماضية، وكانت سعادتنا لا تقدَّر بثمن، حتى إننا في رحلة العودة رحنا نضحك من أعماق قلوبنا، ونواصل الضحك، وكان أكثر شيئا ضحكنا منه هو الخوف، ضحكنا من مخاوفنا، وضحكنا على كَبَاتِنة فريقنا، الذي ما انفكوا يخوِّفوننا من الخروج وقت المطر، ومن الذهاب إلى هذه المنطقة أو تلك بذرائع مختلفة.

وحتى ونحن في قلب الخطر، وفي ذروة الخوف، كنا نقاوم خوفنا بالضحك والمرح.  

والشيء الجدير بذكره هنا هو أنني -وأنا أعبر إحدى قرى بني مطر- تقدّم وجهاء القرية منِّي، وراحوا يسألونني، ويقولون لي:
"مطر وانتو خارجين بين المطر، وحالتكم حالة، لِلْمِه ما كلفكم الله، أنتم بعقولكم والا مجانين؟!!".
 
قلت لهم، وأنا زعلان: "ليش ما تسألوا أصحابي اللي سبقونا ومروا من أمامكم ليش ما بِلا تسألونا أنا؟!".
 
قالوا وهم يضحكون: "هولاك كلهم شباب، قلنا نسألك أنت؛ لأنك شيبة"، وعندها ضحكت.

مقالات

الوجْه الآخر للمملَكة

التحوّل والبناء، الذي يجري في السعودية، مُثير للاهتمام، لكن بقدر إثارته للاهتمام يقدم صورًا شديدةَ التناقض في جوانب أخرى.

مقالات

الاستعراض اللغوي والمعرفي

الكثير من الكتابات تشدنا إليها وتدعونا إلى الغَوص في أعماقها، وأساليبها المتباينة والمتنوّعة، وقليل من الكُتاب الذين يستطيعون الإمساك بزمام الأمور، وشَد انتباه القارئ من أول لحظة بالفطرة والثقافة الموسوعيّة، والإبهار المعرفي عن طريق الإبهار اللغوي، واللغة المكثّفة المُوحِية، وتنوُّع أساليب العَرض، ومناقشة قضايا جوهرية تتّصل بالوجود الإنساني، وإشكالياته المُعاصرة.

مقالات

أبو الرُّوتي

مثلما كان البَوْل يسيل منّي لا إرادياً، كان المُخَاط هو الآخر يسيل من أنفي لا إراديا مع الفارق، وهو أن البَوْل يسيل في الليل أثناء النوم، فيما المُخَاط يسيلُ في النهار وأنا يقظ؛ لكنه كان يسيل بطريقةٍ مَرَضيَّةٍ لكأنّ أنفي جُرح ينزف، وكان الذين يَعبُرون من أمام بيتنا -حين يبصرون السائل الفيروزي يجري في سائلة أنفي- يصرخون بي: "اتْمخَّط ياب".

مقالات

فلسطين جرح الإنسانية النازف

لا يمكن في الأصل أن نفّوت عند الحديث عن القضية الفلسطينية حادثة وفاة السنوار الأخيرة التي توجت بعد مسيرة صمود ونضال طويلة أسطورية بالشهادة. وذلك لشيئين واحدٌ منهما حزن الناس العام في الوطن العربي، الذين بكوا عجزهم، وصمت زعمائهم الخاذل للشعب الفلسطيني وقادته الذين تركوا في الأرض الفسيحة مهوى لنيران العدو مواجهين مصيرًا هو أقذر ما يمكن للبشرية أن تصل إليه من الممارسة العدوانية القائمة على سفك الدماء وتدمير المنازل وقتل كل مظاهر الحياة، كل الحياة، شجرها وحجرها وناسها.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.