مقالات

صورة سبتمبر مكثَّفة في أول مؤسسة مالية!! (1-2)

06/08/2021, 08:03:20
المصدر : خاص

منذ أكثر من شهرين، وأنا أقوم بنشر سلسلة مقالات في "منصة خيوط" عن البنك اليمني للإنشاء والتعمير تحت عنوان "بنك البنوك وسنوات التأسيس الأولى"، أتتبع فيها - اعتماداً على سلسلة إصدارات تبناها البنك وعلى رأسها كتاب الدكتور سعيد الشيباني (أربعة وثلاثون عاماً من العطاء التنموي)، إلى جانب بعض المشافهات والنصوص التاريخية عن تلك المرحلة - السنوات الأولى لتأسيس البنك، والظروف القاسية التي أحاطت هذا التأسيس، حتى صارت الوثائق والمصادر التي تحيل إلى تلك الفترة جزءاً من تاريخ صورة سبتمبر، التي يتوجّب إعادة قراءتها والتذكير بها في هذه اللحظة المفصلية من تاريخ اليمن المعاصر، لتغدوا حالة من حالات المقاومة الذّهنية لعملية التجريف الممنهج لإرث عظيم اسمه "ثورة السادس والعشرين من سبتمبر".

تقول الوثائق والمصادر التاريخية إنه، بعد شهر واحد من قِيام الثورة وتحديداً في الخامس والعشرين من شهر أكتوبر/ تشرين أول 1962م، التقى في القصر الجمهوري بصنعاء مجموعة من التجار ورجال الأعمال الداعمين للثورة والجمهورية، قدِموا إلى العاصمة من مدينة عدن، ومن دول المهجر في دول شرق أفريقيا (الصومال والحبشة وجيبوتي وتنزانيا وكينيا)، وقليل جداً من الداخل اليمني (الحديدة وتعز).

في نهاية ملتقاهم، الذي تدارسوا فيه الصعوبات الاقتصادية التي تعيشها الدولة الوليدة من رحم القهر والاستبداد والانغلاق وأشكال الدعم الذي يتوجّب تقديمهم إياه للثورة اليمنية، واقترحوا تأسيس بنك وطني، يحِل محل البنك الوحيد العامل في اليمن (البنك الأهلي التجاري السعودي)، الذي صرَّح له الإمام أحمد بالعمل في ثلاثة فروع، في الحديدة وتعز وصنعاء، ابتداءً من العام 1956م، الذي كان يقيِّد في حساباته - وقت تصفيته بعد الثورة- قرضاً شخصيّا على الإمام أحمد بمبلغ ثمانين ألف دولار أمريكي، حسب ما يشير إلى ذلك د.سعيد الشيباني، ويصير المبلغ، في رواية أخرى، ثمانين ألف ريال "ماريا تريزا"، حسب قول الباحثين السوفييت: فلادمير .أ. جوساروف، وأدهم .م. سيف المالكوف، في كتاب "اقتصاديات الجمهورية العربية اليمنية".

في 28 أكتوبر 1962م، أصدر الرئيس السلال قراراً جمهوريا بإنشاء البنك اليمني للإنشاء والتعمير، ولم تزل وثيقة التأسيس متداولة حتى اليوم، التي كتبت بخط اليد، ومكوَّنة من ثلاثة أسطر  فقط.
أما سبب التأسيس -حسب الوثيقة- الحاجة لتشجيع الاقتصاد الوطني حتى تضمن البلاد التطوّر والتقدم.

هذه الوثيقة البسيطة لم تسبغ عليه صفة أول بنك وطني يتأسس في اليمن وحسب، وإنما حددت مهامه وأهدافه الاقتصادية الوطنية الكبيرة في بلد خرج لتوِّه من العزلة والانغلاق قبل 32 يوماً، بقيام ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962؛ ولكونه أول بنك وطني، فقد استلزم الأمر أن تتعدد أغراضه بحيث تشمل كافة الخدمات المصرفية الاعتيادية للقطاعين العام والخاص، إضافة إلى المساهمة في عمليات التنمية الاقتصادية، من خلال تأسيسه لعديد من الشركات الحيوية التي كانت تفتقر إليها البلاد،
تكوّنت أول هيئة تأسيسية، أو جمعية تأسيسية، للبنك اليمني  من العديد من رجال الأعمال الذين حضروا الاجتماع، أو من الذين تم تزكيتهم من خارج الاجتماع، ومن هؤلاء: هائل سعيد أنعم، عبد الله شمسان الدالي، علي حسين الوجيه، أحمد حيدر ثابت، أحمد عبدالله زيد، محمد سيف ثابت، عبد الصمد مطهر، شمسان عون، عبدالعزيز الحروي، عبدالله المحضار، وعبدالله علي العولقي، وغيرهم.

وكان هؤلاء هم الذين ابتاعوا أسهم البنك في عدن، وصار معظمهم وكلاء للبنك، وعلى رأسهم علي حسين الوجيه (وكيل الحكومة الجديدة في عدن)، حيث قام بشراء ما مجموعه "13 ألف سهم"،
يلاحظ هنا أن البيوتات التجارية المعروفة في صنعاء لم تكن حاضرة هذا الملتقى، أو لم تظهر ضمن هيئة التأسيس الأولى، مثل بيت "الثور وغمضان والسنيدار واليماني والوتاري"، لكننا سنرى -بعد أشهر قليلة- أن هذه البيوت - بعد اطمئنانها لثبات الجمهورية وصمودها، وتعزز دور البنك في الحياة الاقتصادية - ستصير أحد المشغلات الحيوية في مسيرة البنك، لأنها لم تكن قد تجاوزت محنة نهب صنعاء في مارس 1948م، بما فيها نهب سمسرة محمد بن أحسن في سوق الصرافة، التي كانت أشبه ببنك مركزي لتجار  أسواق المدينة القديمة.

مباشرة قام البنك الأهلي السعودي بتجميد عمله في اليمن وسحب الودائع والأرصدة إلى مقره الرئيس في مدينة جدة، فاتخذت القيادة الجديدة في صنعاء قراراً بتصفيته، يُقال إن نائب الرئيس عبد الرحمن البيضاني  كان وراء قرار التصفية بلجنة ترأسها الدكتور حسن محمد مكي (أول رئيس للبنك اليمني)، ومعه الدكتور محمد سعيد العطار، ومحمد عبدالله عبده، وآخرون. صارت مقرات البنك الأهلي التجاري السعودي بعد التصفية هي مقار للبنك الوليد الذي اتخذ من مقر الحديدة مركزاً رئيسيا له، لأنه كان مؤهلاً أكثر من غيره من الفروع، بما فيها فرع صنعاء الذي كان عبارة عن مبنى قديم من اللبن على أطراف ميدان شرارة (التحرير)، الذي تعرّض للنهب في أول نهار بعد الثورة، فقد أبصر أحد الشهود، الذين التقاهم الكاتب، الكثير من الأفراد يدخلون مقر البنك، ويخرجون محمّلين بخيش من العملة الصغيرة (بيس وبقش)،
رأس مال البنك اليمني عند التأسيس حُدِّد بعشرة ملايين ريال (ماري تريزا)، ووزّع رأس مال التأسيس على مليون سهم، وقيمة كل سهم فيه عشرة ريالات. امتلكت الحكومة نسبة 51% من الأسهم، تمثلت في قيمة دمج شركة المحروقات اليمنية [النفط] في البنك كجزء من قيمة مساهمة الدولة (مع منح المساهمين في الشركة أسهماً في البنك)، والرصيد الدائن في ميزانية تصفية البنك الأهلي التجاري السعودي، حين تحوّلت ملكية هذا البنك بعد التصفية إلى البنك اليمني بعد قيام ثورة سبتمبر.
بقية النسبة، البالغة 49%، تُركت للاكتتاب العام، التي بلغت، في 31 ديسمبر 1962، أكثر من 67 ألف سهم، كما يذهب إلى ذلك الدكتور سعيد الشيباني في الكتاب المذكور.

أول اجتماع لمجلس إدارة البنك كان بتأريخ 31 ديسمبر 1962، في مقر مجلس الوزراء في القصر الجمهوري بصنعاء، برئاسة أول رئيس لمجلس إدارته، الدكتور حسن محمد مكي، وبحضور أول مدير عام للبنك الدكتور محمد سعيد العطار.
الدكتوران "مكي والعطار" كانا قد تأهلا تأهيلاً علميّاً عاليًاً، الأول في إيطاليا والثاني في فرنسا، ومثّلا الصورة الجديدة لليمن الخارج من ركام السنين، وسينضم إليهما لاحقاً محسن حسن السري خريج بريطانيا، لهذا سيقول الأستاذ أحمد محمد نعمان بعد قرابة عشر سنوات من التأسيس، وأثناء افتتاحه لفرع جديد للبنك أثناء توليه موقع رئيس الحكومة منتصف العام 1971م:
"لست مغتبطاً أن البنك اجتذب المال، ولكنّه اجتذب العلم أيضاً، ولا اكتمكم ما يملأ نفسي من اغتباط واعتزاز، وأنا أرى شبابنا الذين يبنون بعقولهم وخبرتهم الاقتصاد في بلادنا  بواسطة هذه المؤسسة".
نظامه الداخلي الأول، الذي صدر في العام 1963، حدد أهداف البنك بتحقيق جملة من المهام، منها: القيام بجميع العمليات المصرفية، وله في سبيل ذلك مزاولة جميع أعمال البنوك التجارية من خصم وتسليف على بضائع أو مستندات أو أوراق مالية أو تجارية، وقبول الأمانات والودائع، وفتح الحسابات والاعتمادات، وبيع وشراء الأوراق المالية والاشتراك في إصدارها.

وله أن يقوم بعقد عمليات ائتمان مع غيره من البنوك، كما يجوز أن يقرض الحكومة أو يضمن القروض والاستثمارات التي تعقدها مع الهيئات والمنشآت اليمنية والأجنبية، ويجوز أن تكون له مصلحة أو يشترك بأي وجه من الوجوه مع الهيئات التي تزاول أعمالاً شبيهة بأعماله أو تعاونه على تحقيق غرضه في الجمهورية (العربية) اليمنية أو في الخارج.

أول اتفاقية خارجية مع مؤسسة مماثلة وقّعها رئيس مجلس إدارة البنك علي محمد سعيد أنعم مع بنك "دوتشيه بنك – هامبورج" الألماني مطلع العام 1965م، وبموجبه تحصَّل على تسهيلات ائتمانية بالغة الأهمية في وقت كانت البلاد  تمر بوضع اقتصادي صعب بسبب حرب الجمهورية الملكية، وكذا الحصار الذي تفرضه الدول والأنظمة المناهضة للثورة على الجمهورية الوليدة.

أما أول تمويلين خاصين  يمنحهما البنك، خارج سياق دعم مؤسسات وشركات القطاع العام التي قام بتأسيسها وتسييرها، فقد كانا لمصنع "كندا دراي" في الحديدة والورشة الفنية للنجارة في صنعاء. يقول حسين علي مصلح الحرازي (أحد الإداريين التاريخيين في البنك) عن التمويل الأول:
"إن صاحب المصنع كان مغترباً، وأتى بحماس مع المعدات وخلافه، لكنه لم يتمكن من الإنجاز، من حيث الأرض وتغطية الاعتماد لتمويل نشاطه، وكان حماس الرجل واضحاً، حيث أتى بعد الثورة مجازفاً بكل ما يملك، فما كان من الحكومة -ممثلة بالرئيس عبدالله السلال- إلاَّ أن أصدر أوامره بإعفائه من الرسوم الجمركية، وأصدر أمراً للبنك اليمني لتمويل نشاطه بعد تعثره". وأضاف "هكذا كان بداية شرب الناس كندا دراي في اليمن، مصنعة محلياً في مطلع الثورة".
أما التمويل الثاني ، حسب الحرازي، كان لورشة 'الأسطى'، التي كانت مكوّنة من مكينتين فقط، ثم عجز مالكها عن الاستمرار في عمله، فأرشده عباس الحِبْشي (مدير فرع صنعاء في ذلك الوقت) إلى اللجوء إلى البنك ففعل. ودعمه في ذلك، فتمكّن من إقامة الورشة التي تطوّرت فيما بعد لتتحول إلى الورشة الفنية الأولى للنجارة في صنعاء، التي شاركت في عملية بناء المدارس، وتوفير المقاعد لصفوفها، وكذلك أعمال النجارة في معظم مشاريع الكويت لاحقاً.

يتبع

مقالات

الوجود كصُدفة..تأملات عن الحرية

كلّ شيء يؤكد أنّ وجودنا مجرد صُدفة. ولدنا دون تخطيط، ولا أهداف محدّدة. كان يُفترض أن تستمر حياتنا مدفوعة بالمنطق البرئ نفسهض. لكنّنا تعرضنا لخديعة وجودية مرعبة، تورطنا في قبول تصورات أولية جعلت وجودنا مقيّدًا للأبد.

مقالات

المصائب لا تأتي فرادى!

قُدِّمَتْ صنعاء على طبق من فضة، أو ذهب، للمليشيات كما لم يحدث من قبل عبر التاريخ، التي بدورها استولت على كل مقدرات الدولة والجيش والشعب في غمضة عين من التاريخ والعالم والزمن، وتحالف أبشع رأس نظام سابق مع أبشع سلطة أمر واقع لتحقيق غاية واحدة

مقالات

نمذجة مقيتة

لطالما ردّدتُ أنني لا أخشى السلطة بقدر خشيتي من كلابها! وعلى القارئ الكريم أن يستبدل مفردة الكلاب بأية صفة أخرى يراها ملائمة. ولعلّ من الأمثلة الساخرة على هكذا صورة مقيتة:

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.