مقالات
عقلانية في المكان الخطأ
يعتقد العقلانيون أن بمقدورهم بث الريبة في الكتب المقدّسة؛ لمجرد نقدها، وإثارة مكامن خلل مزعومة فيها.
يصرخون فرحًا، كمن اكتشف لتوّه حُجة دامغة ضد خصمه. انظروا إلى هذه الآية القرآنية، إنها تتضمن خطأ نحويا مخجلا.
ويتقافزون من هنا وهناك لسرد مزيد من الأدلة.
ينشب الجدل، ويستمر المؤمنون في مستوى يقينهم نفسه بالخطاب الإلهي، وربما بصورة أشد.
لا تستمد الكتب المقدّسة قوة تأثيرها من بنيانها المنطقي بالضرورة، وعليه فهي غير قابلة للخسارة من هذا الباب.
هذا لا يعني الإقرار بعدم منطقيّتها؛ لكن المقصد الإشارة إلى عبثية النهج العقلاني الذي يتوّهم أن حشد أدوات النقد أسلوب فعّال لتقويض خصمهم اللدود، وإعلان انتصار منهج التنوير.
منذ آلاف السنين، وأنصار العقل المطلق لا تتوقف محاولاتهم لتحقير الأديان، إنّهم مصرون وبشدة على زعزعة العقبة الكبرى المعيقة لتقدم الوعي، والرغبة بتوجيه الضربة الأخيرة للدِّين.
لكن وكلما تقدّم الزمن، نأتي إلى معاينة النتيجة، ونجدهم يلعبون في الهامش نفسه. إنها محاولات متوترة، تتبخر لمجرد انتهاء النقاش. فلا هي أثنت مؤمنًا عن قناعته، ولا هدأ قلق عقلاني حين لم يبصر الثمرة، بمستوى ما كان يحلم به.
لكن لماذا لا يتأثر المتدينون بصورة واسعة وعميقة، ويحدث التحول الحاسم، لماذا لم ينتصر نهج التنوير القسري هذا..؟
يجيبنا "كارل يونغ " بالقول: إن بنية الإيمان غير قابلة للاختراق بهذه الطريقة، فقوة الدِّين لا تتوسل أدوات من خارجه؛ كي تتمكّن من النفاذ، هناك حاجة بشرية صميمية تنبع من بنية الكائن النفسية، وهي بمثابة الوتد الذي يشد عقال الدّين ويهبه ديمومة، ويعطّل كل المحاولات العقلانية المزعومة لتحييده من حياة البشر.
إذًا، لا يمكنك إضعاف أثر الدّين لمجرد البرهنة على خطأ هنا وهناك، بصرف النظر عن صحة تلك البرهنة من عدمها.
إنك تتصرف بطريقة غير عقلانية، حين تستخدم العقل في فضاء غير عقلاني في طريقة اشتغاله.
ومرة ثانية لا أعني هنا عدم عقلانية المنطق الدّيني؛ لكن الدِّين بذاته، تصوّر كلي يتجاوز فكرة العقلانية التجريبية والسبيبة، وله نظامه الخاص، نظامه الداخلي المتمايز عن المنهج التجريبي، ما يجعل فاعلية النهج العقلاني هنا ضئيلة، بل يجعل منه نهجًا غير عقلانيا، بالنظر لعدم تناسبه مع موضوع الدراسة، ومحاولته اقتحام منطِقة لا يشتغل فيها المنطق بتلك الصورة المرجوّة منه.