مقالات

علمانية ماكرون أفيون الشعوب

21/10/2020, 08:26:18
المصدر : خاص بلقيس


في فرنسا، أظهرت نتائج "سبر آراء أخيرة" أن 70% من الفرنسيين يؤيدون المشروع الذي طرحه الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، الذي تضمن خطة ضد ما أسماه "الانعزالية الإسلامية" أو "الانفصالية الإسلامية"، بدعاوى حماية العلمانية الفرنسية، لكن حماية العلمانية التي يزعمها الرئيس الفرنسي تقتضي -من وجهة نظره- انتهاك مبادئ تلك العلمانية، وهدم الأسس التي قامت عليها. 

منذ 1905 العام، الذي فُرضت فيه العلمانية في فرنسا، وتم فيه فصل الكنيسة عن الدولة فعلياً؛ قدمت فرنسا نظاماً صارماً للعلمانية داخل مؤسسات الدولة، إلا أن تلك السياسة داخل الدولة لم تنتهك الحقوق المدنية بل حافظت عليها، وأتاحت مساحة واسعة لممارسة الحريات العامة، ورغم التجربة الطويلة للعلمانية الفرنسية وثقافتها المتوغلة في أوساط المجتمع؛ نجد أن أغلبية كاسحة منهم أصبحت تصوّت اليوم لصالح انتهاك الدولة للمجال الخاص للمسلمين، وفرض أيديولوجيا لادينية على حياتهم ونشاطاتهم العامة. 

فما يُعرف بمشروع "خطة العمل" التي يروج لها ماكرون؛ سيتم بموجبها على سبيل المثال: فرض التعليم النظامي على أطفال المسلمين بوصولهم سن الثالثة، وفرض رقابة على التعليم الديني في المنازل، إضافة إلى تعيين أئمة المساجد بموافقة وإشراف الجهات الفرنسية، وحظر ارتداء الزي الذي يحمل أي رمزية إسلامية، في محاولة لفرض نظام اجتماعي وتعليمي وشعائري على المسلمين، تعدّه وتشرف عليه الحكومة الفرنسية، بحسب ما ظهر حتى الآن من خيوط خطة ماكرون. 

كانت نتائج الاستطلاعات المتواترة قد أحدثت صدمة في الأوساط والمؤسسات الحقوقية، حيث كشفت نتائج الاستطلاع عن مستوى مرتفع من التعصّب الديني تظهره مؤشرات "سبر الآراء الأخيرة"، لم تكن تألفه فرنسا من قبل، بالتزامن مع تزايد شعبية اليمين المتطرّف في البلدان الغربية، الذي أثبت قدرته على اختراق عقول المجتمعات الغربية، والتأثير في قناعات الناس، التي من المفترض أن تكون صارمة وحاسمة تجاه قضايا أساسية، ومنها حرية "الضمير" كما يطلق عليها في التراث الفكري الفرنسي.

تصاعُد هذه الظاهرة في الأوساط الشعبية في فرنسا، يأتي نتيجة تأثير الدعاية السياسية وظاهرة الإسلاموفوبيا، التي ما لبث القادة الفرنسيون يستخدمونها للتغطية على فشلهم في إدارة المشكلات الداخلية، ليست الأولى لكنها تفاقمت بالتزامن مع المشكلات الاقتصادية التي تعيشها فرنسا، أهمها: البطالة، وفشل النظام الصحي الفرنسي في مواجهة فيروس كورونا، والأزمة الاقتصادية التي خلفتها الجائحة، إلى جانب كونها تأتي في سياق السباق الرئاسي بين الأحزاب السياسية المتنافسة، ولذلك فقد غدا الرئيس ماكرون اليوم - بعد أن كان قبل وصوله للرئاسة يظهر انفتاحاً كبيراً تجاه المسلمين وينتقد التاريخ الاستعماري لفرنسا - يهاجم المسلمين، ويستخدم هذه الأداة السياسية بهدف حرمان قوى اليمين القومية برئاسة منافسته العنيدة "ماري لوبان" من الاستيلاء الكامل على خريطة الناخبين اليمينيين، لذلك فإنه يحاول اكتساح ميدان ما يسمى بالوسط اليميني داخل فرنسا؛ ليجد نفسه على قدر المساواة مع منافسته على حساب مواطنيه المسلمين.

في حال تمكّن ماكرون من تطبيق تلك الخطة، التي يتضح يوماً بعد آخر أنها باتت مركزية في استراتيجيات حملته الانتخابية؛ فإنه سيتمكّن من تقاسم أصوات ناخبي اليمين مع "لوبان"، وبذلك تحييد تلك الأصوات على الأقل، حتى لا تكن مؤثرة في ترجيح كفة خصومه في الانتخابات الرئاسية التي من المقرر إقامتها بعد عام ونصف، ويجدر الإشارة إلى أنه من الممكن أن يكون أحد الأسباب التي دفعت الرئيس ماكرون لمغازلة قوى اليمين الفرنسي هو الضعف والتراجع التي تعيشها قوى اليسار في فرنسا اليوم، وهو التيار السياسي الذي جاء منه ماكرون. 

يتعمّق تأثير كلٍ من الهوية القومية والدينية كفواعل رئيسة في الأوساط المجتمعية داخل فرنسا، إلى درجة باتت تتراجع معها القضايا الرئيسية التي تمثل جوهر المشكلات الحقيقية التي يواجهها المواطن الفرنسي؛ حيث تعطي موقف التيارات السياسية من أصحاب ديانة أخرى أولوية على غيره من الملفات الأخرى، ليصبح بذلك العامل المؤثر الأول في تحديد خيارات غالبية الناخبين الفرنسيين. 

هذه المفارقة تتم داخل مجتمع لم تكن المظاهر والتقاليد الدينية تشكل حضوراً مؤثراّ في ثقافته وطريقة عيشه، فضلاً عن مواقفه الكبرى واختياراته السياسية، وبينما يحدث ذلك الإنقلاب على قضايا الحقوق والحريات في المجتمعات والنخب الغربية؛ هناك من يحارب لفرض العلمانية الصارمة، وفصل الدّين عن الحياة في البلدان العربية؛ رغم الحضور الديني الكثيف والفاعل في نظام وحياة الناس عربياً، بالإضافة إلى وجود فوارق جوهرية بين الإسلام والمسيحية، وكذلك ظروف موضوعية أخرى تجعل الوضع لا يستدعي قطيعة مطلقة مع الإسلام، على غرار الوضع في المجتمع الغربي، حيث المسيحية عانت من خلل بنيوي طوال تاريخها لم يسمح بالابقاء على حضور مركزي للكنيسة في الحياة، فضلاً عن تدخّلها في الشأن السياسي..

حدث ذلك نتيجة الصراع الذي خاضته الدولة مع الكنيسة بعد الثورة الفرنسية بهدف تحويل ولاء الكنيسة عن الفاتيكان لتصبح كنيسة وطنية، فالهدف لم يكن في البداية، وخلال قرنين من الزمن، حرمانَ الكنيسة من المشاركة في الشأن العام أو الدولة، بل تركزت الجهود حينها على محاولة إخضاع الكنيسة لسلطة الدولة، ومع تعذّر ذلك وفقدان الكنيسة المرونة الكافية للانفتاح على قواعد حياة سياسية جديدة فرضتها صيغة النظام العالمي بعد معاهدة "وستفاليا"، فضلا عن وجود مشكلة تتعلق بالهوية والمبادئ المسيحية تحول دون قدرتها على التصالح مع متطلبات العصر والتفاعل الإيجابي معه؛ اضطر الفرنسيون أن يقرروا فصلاً كلياً بين الدّين والدولة، مطلع القرن العشرين، وذلك لم يكن قائماً قبلها، بخلاف ما يظنّه البعض بأن علمانية الدولة في فرنسا تشكلت منذ البداية، كما نعرفها في صيغتها الحالية وبضربة واحدة، دون أن تتعرض لتعديلات وتحولات ومن غير أن تمر بمراحل متعددة. 

وعلى الرغم من صرامة العلمانية القائمة في الحالة الفرنسية، إلا أنها أكدت على تساوي الدّيانات كلها أمام القانون، وشددت على لا دينية الدولة، وعلى عدم القبول مطلقاً باستخدام سلطة الدولة، بهدف فرض دين أو مذهب أو فكر معيّن على أي أحد أو أية مجموعة في المجتمع، لكن المفارقة أننا بعد قرن من الزمن نرى علمانية فرنسية متهالكة، أصبحت تنحدر لتغدو شبيهة كثيراً بالحالة السائدة لدى أنظمة الدول العربية العلمانية، إذ تعلن شكلياً دستوراً علمانياً ثم لا تمتثل لأي من مبادئه الأساسية، ولا تعمل بمقتضياته. 

وفي الحالة الفرنسية، عندما يتم تحويل العلمانية من نظام إداري يقف على الحياد من جميع الأديان والمذاهب والطوائف إلى موقف ضد دين معيّن، على اعتبار أن العلمانية في صيغتها النظرية القابلة للتطبيق ليست أيديولوجية أو فكراً مقابل افكار وأيديولوجيات أخرى، بل هي نظام لإدارة الدولة، كان قد ظهر كحل جذري لإنهاء الحروب الأهلية داخل المجتمع الغربي، وبهدف منع استخدام أدوات الدولة في قمع المخالفين والمعارضين، ومن أجل تنظيم علاقة الدولة بمواطنيها، لكن ذلك النظام الذي ضمن حق جميع المكوّنات المجتمعية في ممارسة حقوقهم في العيش والمواطنة المتساوية والكرامة الإنسانية، وفي الاعتقاد والتعبير عن الرأي، وفي ممارسة الشعائر والتقاليد؛ يحاول ماكرون اليوم القضاء عليه، متجاهلاً كونه أهم منجزات الحضارة الغربية، ويقوم بتوظيفه كما تمّت من قبل محاولة توظيف الدّين في الخطاب السياسي الفرنسي.

وهنا ينبغي الإشارة إلى أن أي فكرة مثالية تصل إلى مرحلة من القداسة في الذاكرة الشعبية، بحيث تسمح للسياسيين بتوظيفها واستخدامها غطاءً لخداع الجماهير واستغلالها لمطامع سلطوية وأهداف غير نزيهة؛ أصبح من الضروري إسقاط تلك القداسة عنها وتفكيكها بالنقد مهما كانت قدسيتها، بهدف الفصل بين الأفكار الدينية أو الأخلاقية والأشخاص الذين يستغلونها؛ حتى نتمكّن من منع الأصوليين أن يوظفوها في خدمة مصالحهم، في كل مجال ومكان وزمان.

يجب عدم الاستخفاف بالخطاب الذي يمارسه الرئيس الفرنسي أو التقليل من خطورته؛ فمن شأن تلك الخفة الماكرونية أن تشكل تهديداً كبيراً على التعايش والسلم الاجتماعي والاستقرار، ليس داخل حدود فرنسا فحسب بل وحتى خارجها.

يوظّف ماكرون شعارات العلمانية في سياق خدمة أغراض صراع تاريخي، وأخرى سياسية نفعية، بينما نجد هنا ألاّ دخل للإسلام ولا للعلمانية بأهدافه ومراميه من قريب أو بعيد، وفي الواقع فإن النضالات والثورات الإنسانية تاريخياً لم تبدأ ضدا عن الأديان السماوية ولا الدساتير المعلنة بل نتيجة غيابها كناظم يضبط حياة المجتمعات وعلائقها، ورفضاً لاستمرار استغلال الإنسان لتلك القيم المثالية في سياق أطماعه ونزواته التي لا تنتهي، تماماً كما يستغل ماكرون فكرة العلمانية لضمان تحقق مطامحه السياسة.

الخلاصة: 

"ديماغوجية" ماكرون تكشف عن مدى قدرة الساسة على العبث بالسرديات الكبرى -كفكرة العلمانية- وتجييش الناس عن طريق استثارة مخاوف وهمية، وبحجة وجود عدو يهدد حرياتهم، يتم قمع الحريات نفسها لمواطنين آخرين يعيشون معهم في البقعة نفسها، ولهم الحقوق والحريات نفسها.

نحن أمام أفيون جديد؛ لكنه متدثر بغطاء العلمانية هذه المرّة، حين النظام السياسي المأزوم يسعى لتغطية اخفاقاته باستخدام فزاعة الدّين وإلهاء المجتمع عن جوهر المشكلة تماماً، كما كان يقول الكهان إن سبب تردي الحياة هو ذنوب البشر.


مقالات

أبو الروتي ( 14 )

كان المعهد العلمي الإسلامي يتبع الشيخ محمد سالم البيحاني -خطيب وإمام مسجد العسقلاني في كريتر- وكان مدير المعهد هو الأردني ناظم البيطار، الرجل الذي كان مجرد ظهوره يثير فينا الرعب.

مقالات

ما العمل؟

عندما قرأ مقالي «ماذا ننتظر كيمنيين؟»، عَقَّبَ الأستاذ المفكر الإسلامي زيد بن علي الوزير بسؤال: «ما الحل؟»، و«ما المخرج؟»؛ وهو «سؤال العارف». وقد وردَ في الأثر: "ما المسئول بِأعلمَ مِنْ السائل".

مقالات

"أيوب طارش".. اسم من ذهب

ما أكثر ما تعرَّض أيوب طارش لعداوات ساذجة من بعض المحسوبين -بهتانا- على رجال الدين، وخطباء المنابر المنفلتة، ليس آخرهم عبد الله العديني، الذي أفسد دينه ودنياه وآخرته بإثارة قضايا هامشية لا تهم أحدا سواه

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.