مقالات
عن الإلحاد المراهق
مثلما أن الزمن الرديء وُلَّد لدينا جماعات دينية هي أسوأ نسخة تتمثل الدين بشكل صادم ومؤذٍ للحياة بشكل عام، على الضفة الأخرى تنشأ ظواهر رافضة للدين، وتشتغل بالميكانيزم النفسي نفسه، وتقدم أسوأ نسخة عن مذهب الشكوكية المعروفة والمناهضة للدين.
نحن أمام حالات شعوذة متطابقة، واحدة باسم الدين وأخرى باسم الإلحاد، وقد تدثر بمزاعم التنوير.
فيما مضى من الزمان، كان الإلحاد يتجلّى في نماذج فكرية تنطلق من حيرة عقلية حقيقية، وتجتهد لتقديم تصورات بديلة عن الحياة والإنسان والعلاقة المفترضة مع العالم.
كانت تلك النماذج والتيارات الإلحادية -إن جاز تسميتها بتيارات- مصدر حراك عقلي وتدافع فكري خلاق ومولد لفكر وآداب وثروة معرفية جديرة بالاحتفاء، وتؤدي دورا تنويريا لجانب التصوّرات الدينية السائدة عن الحياة.
بحالة كهذه، كان الملحدون أشخاصا فاعلين، ووجودهم مهم فيما يتعلق بالغاية النهائية للإنسان على الأرض، ومساعيه لاستكشاف الوجود.
ونتاج هذا الحراك العقلي، المؤمن والملحد، حفظ لنا التاريخ ملاحم ومؤلفات كثيرة، من ابن الراوندي، مخاريق الأنبياء، لابن المقفع، وابن رشد، ولفيلسوف الشعراء، أبو العلاء المعري، وصولا إلى عبدالله القصيمي، وغيرهم الكثير. بصرف النظر عن مدى قبول المرء لكل ما قالوا من عدمه، فما هو مهم هو أنهم كانوا فاعلين ومنتجين للمعرفة.
غير أن كل شيء في بلاد العرب والمسلمين يتعرّض للفساد بفعل الزمن. بما في ذلك النماذج الملحدة، ومن تدعَّى تزعّم تيار العقلانية والدفاع عن العقل في مواجهة الدين والوحي والنبوة والكتب المقدسة.
وفي حين أورثنا الإلحاد العربي، في القرون الماضية، رسالة الغفران، لأبو العلاء المعري، انتهى بنا البؤس إلى مساحة في تويتر، يتحدث فيها علي البخيتي عن الله، وعن نشأة الكون وماهية الوجود، بتلك الصورة المسطحة والبدائية جدا في تفسيراتها المختزلة عن أعقد قضيّة في حياة الكائن البشري كله.
حسنا، لا يوجد فيما تطرحه النماذج الإلحادية المراهقة في مواقع التواصل ما يصلح ليكون محددات للنقاش، يوجد عناوين، لكن لا يوجد مضمون جاد جدير بالتوقّف معه.
إنك لا تكاد تتفق معه على تعريف مبدئي لفكرة "الله"، كما لا توجد قوانين أساسية للجدل المنطقي تُلزم الطرفين باتباعها منعا للأحاديث العشوائية. وبدون اتفاق على أسس عقلية مبدئية، كل فكرة ستخوض فيها عائمة في الهواء.
الحديث ليس عن مسلّمات فكرية مسبقة، بل عن شروط عقلية، إطار يتعلق بمبادئ المنطق، تلك التي اتفقت عليها كل العقول البشرية منذ ما قبل زمن الإغريق.
بوضوح أكبر: ألف، باء، المنطق والحوار المرتّب.
ولتعذر وجود نقاش كهذا، من المهم أن يتجاوزهم المرء، ويذهب إلى الحديث عن جوهر الموضوع، عن الله، الذي يحتدم الجدل حوله، بين المتدينين والملحدين الجدد.
لطالما كان الله هو أنبل فكرة في تاريخ الوجود البشري منذ بدء الخليقة، فكرة أو حقيقة، جوهر أو وجود، سمّه ما شئت. إنه أفق يدفعك للتطلّع الدائم والرغبة بتوسعة مساحتك نحو عوالم جديدة باستمرار. وبذلك هو أعظم مصدر من مصادر المعنى المتجدد في حياة الكائن البشري منذ أن اكتشف الإنسان ذاته على هذه الأرض.
حتى من قبل أن تتنزل الأديان، كان الإنسان يشعر بوجود قوة غامضة، متعالية ومطلقة، مكتملة بذاتها، موجودة دون واجد، قوة خلاقة وشاسعة، كان يشعر بوجودها، وحين لم يخبره أحد عنها، كان يخترعها؛ كي يتطلّع إليها، ويضاعف بوجودها من قوته ونفوذه.
غير أن الملحد لا يؤمن بهذا، ولا معنى لحديثك عن الله بتلك الصورة، فيما أنت إزاء شخص منكر لوجوده كليا. هذا اعتراض منطقي؛ لكن من يقنع الملحد المراهق أن أي حوار حول الله يتطلب افتراض مجموعة صفات ضرورية، لهذا الذي نطلق عليه مبدئيًا اسم "الله"، ما الذي يتوجّب أن يتصف بها من صفات، كي يكون جديرا بالاسم.
في تاريخ الجدل حول هذه القوة المفترضة، والواقفة خلف الوجود، يقال لا بد أن يتصف الله بمجموعة صفات، تختلف من صياغة لأخرى، لكن يمكن إجمالها بالتالي: العلم الشامل، القدرة المطلقة، الإرادة المطلقة، المشيئة المطلقة، الحكمة المطلقة. وإذا ما غابت صفة من هذه، أو تعرّضت للخلخلة والشك، تسقط عن الله صفة الألوهية.
ما الذي تقتضيه هذه الصفات، تقتضي أن يسير النقاش من الأسباب نحو النتائج، غير أن الملحد المراهق يقوم بقلب قواعد الجدل، وينطلق من النتائج لدحض الأسباب والمسبب.
فالله هو المسبب للوجود، أو هذا ما تقتضيه صفة الألوهية؛ لكن الملحد، يرفض ألوهيته، ويعطلها انطلاقا من النتائج.
ما النتائج..؟ هي الوجود الناقص.
يقول لك، هذا الوجود فيه شرور، إذا الله عاجز عن منع الشر. تقول له: ألم نتفق أن الحكمة المطلقة والمشيئة المطلقة صفتان أساسيتان في أي شيء، تطلق عليه اسم "الله"..؟ يقول لك: بلى. لكن الله المزعوم هذا، خلق كونا مليئا بالشرور، وهذا يجرده من القدرة المطلقة والحكمة المطلقة. تقول له: أليس من حق الله الكامل ومشيئته المطلقة، خلق كون ناقص..؟ يقول لك: بلى.
لكنه إله غير حكيم، وإلا ما خلق كونا ناقصا، تقول له: هل الكون الناقص دليل عدم حكمة، ماذا لو كانت حكمته المطلقة تقتضي ذلك؟ يقول لك: إني لا أفهم هذه الحكمة. إذا لا يحق لك اتخاذ عجزك عن فهم الحكمة مبررا لنقض مصدرها. بمعنى، لا يصح منطقيا اتخاذ النتيجة المتمثلة في "الكون الناقص" كحجة فلسفية لنقض وجود الخالق. فهذا قلب لمعايير المنطق؛ لكنه لا يفهم قواعد المنطق. ولهذا هو إلحاد مراهق.
لقد تورّطنا بمناقشة الملحد المراهق، وأخذ كلامه بجدية، فيما يفترض بنا أن نجمل حديثنا حول هذا الإلحاد، ونذهب إلى وصف بشكل مجمل، ولنا الحق بذلك، ما دامت شروط الجدل معه غير متوفّرة.
الخلاصة: الإلحاد المراهق هو موقف شكوكي لا يتوفّر حتى على مبادئ الشكوكية القابلة للجدل، مثلما هو التدين الوراثي، تدينا، لا يستوعب الفكرة الدينية الجوهرية، ويتشبث بتدينه كما نشأ عليه. مع فارق أن البشر بطبيعتهم متدينون، ولهذا فالتدين البدائي هو أمر مفهوم وطبيعي بكل ما فيه من عشوائية، غير أن الإلحاد يفترض فيه أن يكون نابعا من وعي واستفهام يهدف إلى بناء تصور جديد عن الوجود، لكننا أمام إلحاد لا يسهم بذلك، ولا يملك القدرات الذاتية لتكوين رؤية فلسفية عن الوجود، ولهذا تراه يجدف ويحطم كل قواعد العقل البشري، ولا يكتفي بذلك، بل يزعم أنه يقود عملية تنويرية، ويا له من تنوير رديء!!