مقالات
عن الحوبان وشارع جمال.. مقارنة بين سلطتين!!
'الحوبان' تحت سلطة الحوثي، 'الحوبان' آمنة، إذاً الحوثي ناجح في نموذج حكمه.
باقي مدينة تعز تحت سلطة الشرعية، المدينة تُعاني من الفوضى، إذاً الشرعية فاشلة في تقديم نموذج للحكم.
هذا النوع من المقارنات هو من أكثر التقييمات سطحية ومغالطة، تقييم شعبوي لا يكتفي بإدانة أخطاء الشرعية وتقصيراتها الأمنية، بل يذهب حد تسويق الحوثي بطريقة غير مباشرة.
لعلَّ أكثر وجوه المقارنة فداحة، بين الحوثي وبقية الأطراف، هو نسيان فكرة الحرية والعبودية، نسيان طبيعة حكم الحوثي وخصومه، هذا معيار منهجي ومركزي، من غير المنطق إغفاله لصالح معيار أخر "معيار الأمن"، فهذا الأخير على أهميته؛ لكنه مخادع في تقييم جوهر السلطتين، وتقديم صورة شاملة ودقيقة عنهما.
نجاح الحوثي في فرض حالة الأمان النسبي في مناطق سيطرته يتزامن مع تجريد المجتمع من حريته بطريقة تصل إلى تدمير نفسيته، وسحق أي مظهر من مظاهر التعدد. ما يبدو مكسبا ظرفيا للحوثي يتعلق بالأمن، يلازمه خسارة عميقة وأبدية تتعلق بتشويه المجتمع على المستوى المعنوي وتجريده من أي إحساس داخلي بالحرية والقدرة على الفعل.
كما أن ما يشاع حول تمكُّن الحوثي من تجسيد سلطة صارمة وبناء مجتمع آمن هو تشخيص غير دقيق، فالجرائم الفردية متواجدة في مناطق سيطرة الحوثي، وهناك قيادات حوثية أمنية ومدنية مسؤولة عن ارتكاب جرائم متعددة في مناطقها؛ غير أن مناطق الحوثي، ولجانب أن المجتمع هناك مسلوب الحرية، هناك أيضا غياب لأي أطراف معارضة داخل مناطقه، وعدم وجود أي جهات قادرة على التقاط الجريمة وترويج بشاعتها أو حتى استثمارها؛ لضرب سلطة الحوثي من الداخل، باعتبارها خصما، على العكس مما هو حاصل في تعز وغيرها.
سيقول قائل: أليس من الممكن تحقيق الأمن مع ضمان حرية المجتمع..؟ لماذا تربط الأمن دوما بالاستعباد والحرية بالفوضى؟
بالطبع هناك إمكانية للظفر بالمكسبين، الأمن والحرية؛ لكن هذا النجاح يستلزم بناء منظومة أمنية راسخة ومراكمة خبرة عملية طويلة، وصولًا لذلك المستوى من السيطرة الشاملة والقدرة الفائقة على منع وقوع الجريمة، وتحييد قدرة المجتمع على أذية بعضه.
وفي الطريق لتحقيق هذا المستوى من الكفاءة، يستلزم الأمر اشتغال دائم على هذا الهدف، مع بقاء إمكانية دائمة لحدوث اختلالات متفرِّقة وصادمة بين الفترة والأخرى، وهو اختلال نابع في أساسه من مساحة الحرية المتاحة للمجتمع، وبالدرجة الثانية من هشاشة الجهاز الأمني الوليد. جهاز واقع بين متطلبات تحقيق واجباته وتحوطه من عدم تجاوز صلاحيته، وتجريد الناس من حريتهم، تحت مبررات حفظ الأمن.
بالنسبة لتعز (شارع جمال)، هناك ارتباك في أداء الأمن، وهناك مبالغة في تضخيم حالة الفوضى، ما حدث مؤخرا صادم جدا للناس، وجريمة باعثة للسخط؛ لكن الأفواه المترقبة لأي جريمة ليست نزيهة بما يكفي؛ للتعامل مع الجرائم بشكل موضوعي دونما تهوين ولا تهويل، بل تذهب بعيدا حد الابتهاج بكل خطأ؛ لتستخدمه كرافعة تدين بها خصومها، وتصب الزيت على النار؛ كي تسوِّق حالة مبالغا بها من الفوضى والفشل.
تعز: مدينة خارجة من حرب، وهي مدينة غير معتادة على السلاح، حديثة عهد به، جهازها الأمني ناشئ، ومجتمعها يعاني من ظواهر غريبة عنه، وليست من طباعه الأصلية، ظاهرة وجود حالة من الشللية، كإحدى النتائج العرضية للحرب، هذه الشللية مستعدة لاستخدام السلاح بشكل منفلت، وفي أي مشكلة شخصية، لا يتورّع هذا الطرف عن استدعاء أصدقائه في شلة ما؛ كي تحسم الموضوع بالنار، وما حدث مع بيت الحرق نموذجٌ لهذه المأساة، إحدى الكوارث المتناسلة عن الحرب ومخلفاتها العميقة في المجتمع.
"يقال إن المناطق المسالمة بطبيعتها، حين تضطر إلى خوض الحرب، تكون أكثر عرضة للإصابة بحالة من الفوضى الطويلة؛ حتى بعد أن تضع الحرب أوزارها كليّا أو بشكل مرحلي.. لكأنّ الحروب تُغيّر هوية المجتمعات المدنية بأكثر مما تفعله إزاء المجتمعات البدائية".
ففي مرحلة ما بعد الحرب، تتمكن المُدن المعتادة على السلاح والعنف من استعادة هدوئها بظرف قصير، بالمقابل تدخل المدن المسالمة مستويات من الصراع البيني، تترك جروحا عميقة داخلها، وتكون أكثر استنزافا للمدينة ويفقد معها المجتمع أكثر خصائصه الأصلية تلك المتعلقة بقيمة التعايش، ورفض التجاوب مع دواعي الصراع تماما، كما يتجلى الوضع العام في مدينة تعز طوال السنوات الأخيرة، وما حادثة "بيت الحرق" سوى نموذجٍ لهذه المآسي المتكررة.
كما أن هناك فارقا مهما، يفسِّر مظاهر الفوضى في تعز، ونقيضها المزعوم في الحوبان. ففي تعز "داخل المدينة"، يتمتع المجتمع بنزعة فردية طاغية، حيث كل فرد يعيش كملك، ويعتبر نفسه حاكماً مستقلا، بخلاف الناس في مناطق سيطرة الحوثي (الحوبان وغيرها)، فهؤلاء تخلصوا من أي نزوع فردي، وتمكّن الحوثي من تطويعهم داخليا؛ كي يتكيّفوا مع سلطته، وهو تكيّف ضريبته عالية. تعطيل كل القدرات الذاتية للناس، وبما يخفّض فاعليتهم ويحولهم لقطعان تأكل وتشرب ولا تفكر بأي حراك خاص، سلبا أو إيجابا، وتلك خسارة كبيرة، كما أسلفنا.
في كتابه الأثير: أسباب نهوض وسقوط الحضارة الرومانية، يقول مونتسيكو: "المجتمعات الجمهورية الحرة والعايشة في ظل سلطة ديمقراطية أكثر قربا من الفوضى، من تلك المحكومة بسلطة ديكتاتورية، وإذا رأيت جمهورية آمنة، فغالبا، تكون مجردة من الحريات"، لا يعني ذلك أن الفوضى حتمية لأي جمهورية حرة؛ لكنها في بداية ترسخها، تكون أقرب للهشاشة منها إلى الصلابة. وأي صلابة أمنية تبدو في منطقة ما (الحوبان مثالا) هي صلابة خائفة، أمان نابع من فقدان الحرية، وليس حالة أمنية أصيلة وصحية ومتناغمة مع الحقوق والحريات.
الخلاصة: هذا ليس تبريرا للجريمة؛ لكنه تفسير، يحصرها في إطارها ويدعو إلى تجاوزها وابتكار التدابير لتلافيها، بدلا من تحويلها إلى مناسبة استثمارية، وميدانا للفت في عضد السلطة وتدمير المحاولات الأولية لبناء دولة. نحن أمام سلوكيات منفلتة من كل الجهات، مجاميع مسلحة بلا عقل ولا كابح،وشركاء سياسيين يشتغلون ضد بعضهم بطريقة عبثية، حالة مرضية متربصة، لا تضع فكرة بناء الدولة كهدف مركزي؛ بل تستغل أي ارتباك، لتدمير المحاولة.